كل الاحتفاليات بالعيدين لا تزال قائمة على نحوٍ ساخر: محاولة مستميتة لمقاومة الضجر العام
في السنوات السّابقة كان الوصول إلى داخل سوليدير المزدانة بزينة "كريسماس والنيو يير" يستغرق ساعات، لاجتياز ازدحام السّيارات
قد يكون الظنّ بأن أي احتفاليّة بعيديّ الميلاد ورأس السّنة في بيروت (على أقل تقدير)، ضربًا من ضروب الهذيان: فاجعةٌ غزّاوية، حربٌ على الحدود الجنوبيّة، عشرات “شهداء” وضحايا الجبهة الملتهبة، آلاف مؤلفة من النازحين، يقابلها ملايينٌ من المتوجسين والخائفين؛ أزمة اقتصاديّة تتلوها نكبةٌ اجتماعيّة ومعيشيّة، الفراغ في كل المناصب وفي كل القيادات، غياب الشعور بالخفّة مقابل الهمّ الأعظم الذي ينوء بحمله اللّبنانيون، وغيرها الكثير، تجعل أي تصوّرٍ للمرح والغبطة، سورياليًّا حدّ الجنون. لكن “وبالرغم من ذلك” (وهو عنوان المرحلة)، فإن كل الاحتفاليات بالعيدين لا تزال قائمة، على نحوٍ ساخر. وربما كان هذا هو حال اللبنانيين في أزمان الحروب دوماً.
الآن إذ تمشي في العاصمة التّي غلبها الإنهاك، فإن العيد أشبه بمحاولة مستميتة لاختراع انشغالٍ يقاوم الضجر العام. من تخوم العاصمة جنوبًا حتّى تخومها الشماليّة الشرقيّة، تسابقت الفنادق ودور اللهو والسهر والمرابع اللّيليّة والمقاهي والمطاعم في مونو والجميزة والحمرا وبدارو ومار مخايل على الزينة الأبهى، بينما تظلّ الشوارع العموميّة على خوائها السّابق، والعتمة الكالحة، إلا ما خلا بعض الأشجار والعواميد التّي علقت عليها الأضواء الوامضة. أما ساحة الشهداء – الموقف الجديد للسيارات – فانتصبت فيها شجرةٌ يتيمة، لا يراها سوى السّابلة والسّيارات المارّة على عجل والمتظاهرون الغاضبون.. بينما يغيب التهافت السّابق لشراء الزينة والملابس والمأكولات.
في السنوات السّابقة كان الوصول إلى داخل سوليدير المزدانة بزينة “كريسماس والنيو يير” يستغرق ساعات، لاجتياز ازدحام السّيارات، بينما وحده التّموضع أمام الشجرة الميلاديّة الضخمة، يعني أن تشقّ طريقك وسط مئات الأجساد المتلاحمة ذات القيافة الأنيقة، التّي تحملق بالشجرة طمعًا بالصورة “الشتويّة” الأكثر قابلية لجمع “اللايكات الفيسبوكيّة”. أما الآن، فالخواء هو سيد المشهد. هجر البيروتيون وسط العاصمة، لتحتلها قلّة قليلة من مؤثريّ التّواصل الاجتماعيّ بملابسهم المبهرجة مع مصوريهم، والـ”food bloggers”، الذين لا يهتمون سوى بتصوير الأكشاك التّي تبيع أكل الشوارع. فيما قد تلتقي صدفةً بأسرةٍ تتموضع أمام محلات “Valentino” أو “Dior” وغيرهما، العلامات التّجاريّة التّي نجحت في جعل زينة العيد تجاريّةً ودعائيّةً ببراعةٍ تفوق تصورات بلدية بيروت.
وتتجلى البلوى الكُبرى التّي تتربص بيروت، في هذا الاضمحلال التّدريجيّ لمظاهر الفرح، حيث تبدو بيروت وعن كثب، حيزاً متناهي الصغر، مُضطرب الهويّة، يعيش حياةً من الوحشة، الهجران الذي يثقب قلب العاصمة في كل مناسبة.
الهجران قابلته حركة “نزوح سياحيّة” باتجاه المدن الجبليّة والشماليّة. فعلى عادتها، تمكنت جونيّة وجبيل والبترون من استقطاب السّواح الداخليين، في مشهديّة مهيبة، منفصلة الى حدٍّ ما عن واقع البلد، كمؤشر على إرادة الصمود لا يصدّعها الخطر الأمنيّ. هذا، وتغيب السّياحة الأجنبيّة عن المشهد ككل، على خلاف ما عهدناه الصيف الماضي. وكأن البلد ولأول مرّةٍ تُرك لسكانه. وأيضاً على عادتها بقيت الأرياف والأطراف على مسافةٍ من المظاهر الكرنفاليّة المبهرجة. وإذا تمكنت مدينة زحلة من جعل العيد ذي رونقٍ خاص بها، بقيت مدينتا بعلبك والهرمل على اعتصامهما بالحداد والصمت. بينما اعتمدت بعض البلدات الجنوبيّة، زينة الميلاد، بوصفها عاملًا للدعم المعنويّ للسكّان والنازحين الجُدد.
لم تعد أي مقارنة لما كانت عليه بيروت ولبنان في قرنه الأول ولما آلت إليه المشهديّة العامة اليوم، سوى مفارقة رديئة مؤداها التّحسر المبتذل، فاقد الجدوى، والباعث للاكتئاب. ببساطة، وربما يحقّ لنا القول اليوم، إن هذا التّسليم المُطلق لـ”الأمر الواقع”، بوصفه عنصرًا تاريخيًّا نشطًا في حياكة النسيج الاجتماعيّ اللّبنانيّ، قد أوصلنا لما نحن عليه اليوم، جمهورية تعيش الاستتباب المؤقت، الرثاء الأبديّ لطموحٍ ونهايةٍ سعيدة مؤجلة، والهذيان بماضٍ ضبابيّ، والاحتفاء المستمر بذاكرة مُخربة. وتحت هذه الفكرة الراديكاليّة في الظاهر، السوداويّة الأصل، وفي مدارها، يعيش الشعب المُفقر، المتوجس، المراقب، مضطرب الهويّة، الغاضب، المتزمت والمنفتح، مزدوج الجنسيّة، مزدوج الانتماء، الطامح واليائس، الفاسد والمستقيم في آنٍ واحد. وتمرّ الأعياد، كمحطاتٍ لاستذكار النكبة اللّبنانيّة لا لتناسيها.
بتول يزبك- المدن