المنطقة على أعتاب إيران نووية… فهل فات وقت التفاوض؟
عاد الزخم في الأسابيع القليلة الماضية إلى الحديث عن المفاوضات النووية مع إيران، وتأرجحت التصريحات بين التصعيد والتهدئة، فبينما أبدت طهران استعدادها لاتفاق جديد، جاءت التصريحات أكثر صرامة من واشنطن، وأكثر تشدداً من تل أبيب، فيما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تضاعف مخزون اليورانيوم المخصب في إيران 23 مرة.
بعد نحو عام من مفاوضات نشطة استضافتها العاصمة النمسوية فيينا في أبريل (نيسان) 2021، تعثر الحوار بين طهران والقوى الدولية، وانشغل العالم في الحرب الروسية ضد أوكرانيا، وبينما عادت الأطراف المنضوية في الاتفاق إلى طاولة المفاوضات في أغسطس (آب) 2022، لكن سرعان ما تعثرت مجدداً بعد رفض طهران النص المقترح من قبل الاتحاد الأوروبي لإحياء اتفاق عام 2015 الذي وافقت طهران بموجبه على فرض قيود على برنامجها النووي في مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
وتوقفت المفاوضات، لكن الأنشطة النووية الإيرانية لم تتوقف، ففي الأشهر الأخيرة الماضية توالت تقارير رسمية وغير رسمية في شأن رفع مستوى التخصيب النووي في إيران إلى معدلات تقترب من صنع قنبلة نووية، ففي فبراير (شباط) الماضي ذكرت شبكة “بلومبيرغ” الأميركية أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية اكتشفت جزيئات يورانيوم مخصبة بنسبة 84 في المئة في منشأة إيرانية، وهو أقل بقليل من نسبة 90 في المئة التي تعني مستوى الأسلحة. ونفت إيران رفع مستوى التخصيب، إلا أنه بحلول نهاية فبراير أكدت الوكالة الدولية ما نشرته “بلومبيرغ”، مع الإشارة إلى استمرار المناقشات مع طهران التي لم تزد مستوى مخزونها، لكن بعد نحو ثلاثة أشهر على هذا التقرير قالت الوكالة إن إيران زادت مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة كبيرة في الأشهر الأخيرة، على رغم إصرار إيران على نفي الاتهامات بسعيها إلى حيازة القنبلة النووية.
وذكرت الوكالة أن مخزون إيران المقدر من اليورانيوم المخصب تجاوز الحد المسموح به بأكثر من 23 مرة، وذلك بموجب اتفاق عام 2015 بين طهران والدول الكبرى. وبذلك بلغ إجمالي مخزون إيران من اليورانيوم المخصب ما يقدر بـ4744.5 كيلوغرام في 13 مايو (أيار) الماضي في حين أن الحد المسموح به في الاتفاق يبلغ 202.8 كيلوغرام. وسبق ذلك تحذير مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رفاييل غروسي بأن إيران لديها ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع أسلحة نووية عدة إذا اختارت ذلك، وأقر بأن “إيران تمضي قدماً في برنامجها النووي”.
تقدم لا رجعة فيه
وفي حين يستهدف التوصل إلى اتفاق منع إيران من تطوير سلاح نووي، فإن التطورات الجارية في برنامجها النووي تطرح تساؤلات في شأن ما بلغته طهران، وهل بات كبح جماح ذلك البرنامج النووي شيئاً من الماضي؟ وما الذي يمكن أن تواصل القوى الدولية التفاوض حوله الآن؟
في حديثه لـ”اندبندنت عربية” قال الزميل لدى “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” في واشنطن، بهنام بن طاليبلو، “إن التقدم النووي الإيراني لا رجعة فيه، حدث كثير منه في عام 2021 عندما سعت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى التفاوض مجدداً للعودة إلى اتفاق عام 2015، مما سمح للنظام الإيراني بتخطي العتبة النووية. هذه حقيقة لا يمكن أن تتصدى لها خطة العمل الشاملة المشاركة (الاتفاق النووي) وتتطلب نهجاً أكثر صرامة وإلحاحاً للتراجع”.
وأوضحت مديرة سياسات منع الانتشار النووي لدى جمعية “الحد من الأسلحة”، كيلسي دافنبورد، أن “هناك ثلاثة مجالات زاد فيها الخطر النووي خلال النصف الثاني من عام 2022، وسيستمر بالنمو في ظل غياب اتفاق أو إجراءات لتقييد التصعيد من جانب إيران، وهي توسيع التخصيب في منشأة فوردو وزيادة مخزونات إيران من اليورانيوم عالي التخصيب ووجود فجوة مراقبة متنامية بعدما أزالت طهران أجهزة المراقبة الإضافية التابعة للوكالة الدولية، والتي نص عليها اتفاق عام 2015. وتضيف دافنبورد أن “إلحاح هذا الخطر يتطلب استراتيجية دبلوماسية استباقية جديدة”.
منشأة فوردو الأخطر
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 أعلنت طهران عن نيتها تركيب 14 سلسلة إضافية من أجهزة الطرد المركزي من طراز “آي آر-6” (IR-6)، التي تعمل على تخصيب اليورانيوم بكفاءة أكبر، في موقع فوردو وزيادة مستويات التخصيب في المنشأة إلى 60 في المئة. وقبل ذلك، كانت إيران تخصب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة فقط في منشأتها فوق الأرض في نطنز. ويرى مراقبون أنه على النقيض من ذلك، فإن فوردو عبارة عن منشأة محصنة بنيت في الجبال بالقرب من قم، فيما يشير صغر حجمها وموقعها إلى أنها بنيت في الأصل لإنتاج مواد لبرنامج أسلحة. وبموجب خطة العمل الشاملة المشاركة، طلب من إيران وقف جميع أنشطة التخصيب في الموقع لمدة 15 عاماً، لأن منشأة فوردو تشكل خطراً أكبر من نطنز، وسيكون من الصعب تدميرها إذا قررت الولايات المتحدة اللجوء إلى الضربات العسكرية لمنع إيران من تطوير أسلحة نووية.
وتقول دافنبورد إن “أجهزة الطرد المركزي الأكثر كفاءة ومخزون 60 في المئة من اليورانيوم المخصب، يمكن إيران من زيادة تخصيبها بسرعة لإنتاج مواد يمكن استخدامها في صنع الأسلحة، ربما قبل أن يتمكن المفتشون من اكتشاف التغيير أو تمكن الولايات المتحدة من الرد”.
على صعيد المراقبة، أعادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أخيراً تركيب بعض معدات المراقبة داخل المنشآت النووية الإيرانية، التي كانت موجودة بموجب اتفاق 2015. ومع ذلك، أفادت الوكالة الأممية بأنها تنتظر مشاركة إيران في استكمال تركيب معدات المراقبة والوصول إلى تسجيلات البيانات والفجوات في التسجيلات.
وتمثل مسألة المواقع غير المعلنة والمشتبه في أنها شهدت أنشطة غير مصرح عنها، نقطة ساخنة أخرى أدت لتعثر المفاوضات. وطالبت إيران مراراً بأن تغلق الوكالة الدولية للطاقة الذرية ملف تلك المواقع للسماح بإنجاز تفاهم في محادثات إحياء الاتفاق، لكن أخيراً أفادت الهيئة التابعة للأمم المتحدة بحدوث “تقدم” في التعاون وقررت إغلاق الملف المتعلق بوجود مواد نووية في موقع مريوان، وهو أحد المواقع الإيرانية الثلاثة غير المعلنة.
اتفاق نووي جديد
دائماً ما تبدي إيران استعدادها للمفاوضات، لكن بشروط لا تمنعها من امتلاك سلاح نووي في المستقبل، وهو ما يعد مناورة مستمرة من قبل النظام الإيراني لكسب مزيد من الوقت والنفوذ. وفي الصيف الماضي، وبينما تحدثت تقارير عدة عن قرب الانتهاء من إتمام التوصل إلى اتفاق جديد، فاجأت طهران مفاوضيها الدوليين بطلبات جديدة امتداداً للمماطلة التي اتخذتها نهجاً لها طوال نحو 14 شهراً من المحادثات غير المباشرة التي استضافتها فيينا.
وكثيراً ما طالب قادة إيران بضمانات بأن الولايات المتحدة لن تترك الاتفاق من جانب واحد، وتفرض عقوبات قاسية عليها مجدداً مثلما فعل الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب الذي انسحب من الاتفاق النووي في مايو (أيار) 2018، وفرض ما يسمى حملة الضغوط القصوى ضد طهران، وهو ما يستخدمه القادة الإيرانيون كذريعة لخرق بنود الاتفاق الدولي الذي شاركت فيه خمس قوى دولية جنباً إلى جنب مع الولايات المتحدة، لكن يتمثل العائق الأكبر على طريق المفاوضات في إصرار طهران على حذف “الحرس الثوري” من قائمة المنظمات الإرهابية لدى الولايات المتحدة.
كما أشار المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى استعداده لعقد “اتفاق نووي جديد”، لكن بشرط “ألا يمس البنية التحتية للأنشطة النووية لإيران”، والمعنى الضمني لهذا الشرط، وفق مراقبين غربيين، هو أنه يجب إعفاء إيران من العقوبات الاقتصادية مع السماح لها بالاحتفاظ بالمعدات التي طورتها في السباق نحو تخصيب اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة خلال العامين الماضيين.
العودة إلى سياسة الضغط القصوى
في سياق متصل، يقر الأميركيون بمن فيهم مؤيدو الإدارة الحالية، بأنه منذ انتخاب بايدن سرع الإيرانيون أنشطة التخصيب، وكذلك تطوير الصواريخ والمسيرات التي تستخدم لأغراض عسكرية، وكثيراً ما شكلوا تهديداً لجيرانهم ولحركة الملاحة في الخليج، كما زادوا التمويل والتدريب لشبكة من الميليشيات والجماعات الإرهابية في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ويقول الكاتب الأميركي بوبي غوش، في مقال بصحيفة “واشنطن بوست”، إن تراخي إدارة بايدن في تنفيذ العقوبات شجع على هذه الممارسات وسمح للنظام بتصدير كميات قياسية من النفط.
وعلى رغم أن بايدن ومسؤوليه ادعوا مراراً أنهم عازمون على منع إيران من بناء أسلحة نووية، فإنهم لم يفعلوا شيئاً يذكر لمنع طهران من الوصول إلى العتبة النووية، حيث لم يتبق سوى قليل للحصول على ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع قنبلة. ويعلم خامنئي أن العودة إلى خطة العمل الشاملة المشاركة تتطلب منه التخلي عن معظم هذه المكاسب، فضلاً عن القدرة على تهديد إسرائيل وإملاء الشروط على دول المنطقة. لهذا السبب يعتقد غوش أن المرشد الأعلى يقترح اتفاقاً جديداً. وبينما ليس واضحاً ما إذا كان سيفكر في التخلي عن مخزون اليورانيوم الذي يمكن لمفاوضيه استخدامه كوسيلة ضغط في المفاوضات مع الغرب، لكنه بالتأكيد يريد الحفاظ على البنية التحتية لبناء مخزون جديد.
ويقول الزميل في “مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات” بهنام بن طاليبلو إنه “في حين أن استراتيجية الإدارة الأميركية السابقة التي تقوم على 12 شرطاً في ما يتعلق ببرنامج إيران النووي، ستشكل نقطة انطلاق مفيدة للمحادثات النووية، إلا أنه يتعين علينا أيضاً تقييم أهمية اتفاق نووي في عالم يتقدم فيه برنامج إيران الصاروخي، ويرسل النظام الإيراني طائرات من دون طيار إلى روسيا لاستخدامها ضد أوكرانيا، ويواصل قمع شعبه”، لذا يؤكد بن طاليبلو على “حاجة واشنطن إلى تبني سياسة الضغط القصوى ضد النظام الإيراني وتقديم أقصى دعم للشعب الإيراني”.
وحددت خطط إدارة ترمب للتفاوض مع إيران حول اتفاق نووي جديد 12 مطلباً، من بينها أن توقف إيران تخصيب اليورانيوم وإغلاق مفاعل الماء الساخن الخاص بها، وأن تسمح للمفتشين الدوليين بدخول غير مشروط إلى جميع المواقع في البلاد، جنباً إلى جنب مع وضع حد لبرنامج الصواريخ الباليستية أو تطوير صواريخ ذات قدرات نووية، كما يجب على إيران إنهاء دعمها “للجماعات “الإرهابية” (حزب الله والجهاد الإسلامي وحركة طالبان أفغانستان والقاعدة)، والانسحاب من سوريا والتوقف عن دعم المتمردين الحوثيين في اليمن أو التدخل في شؤون جيرانها، كما هو الحال في العراق ولبنان، أو أن تهدد الآخرين مثل إسرائيل أو دول الخليج العربي.
وفي حين يستغل خامنئي الوضع المضطرب دولياً وحاجة الغرب إلى مزيد من النفط، فإنه من جانب آخر يشعر بالتهديد من الداخل، والذي يزداد مع تصاعد الاستياء من الركود الاقتصادي الذي تضاعفه العقوبات، لذا يرى غوش أنه يجب على إدارة بايدن الاستجابة لاقتراح خامنئي من خلال تشديد الخناق بدل تخفيفه. فيجب أن تنهي واشنطن التراخي الذي أظهرته تجاه فرض العقوبات الحالية، وأن تشجع حلفاءها على فرض مزيد من القيود، بما في ذلك إقدام الاتحاد الأوروبي على تصنيف “الحرس الثوري” الإيراني كمنظمة إرهابية. فغضب الأوروبيين من المسيرات التي تصدرها إيران إلى روسيا يمكن أن يمنح الولايات المتحدة نفوذاً لكسر المقاومة الأوروبية لاتخاذ موقف أكثر صرامة ضد طهران.
العودة سريعاً إلى طاولة المفاوضات
وتقول مديرة سياسات منع الانتشار النووي لدى جمعية “الحد من الأسلحة”، كيلسي دافنبورد، إنه إضافة إلى السرعة المتزايدة التي يمكن لإيران أن تصنع من خلالها قنابل عدة، يمكن للعوامل الجيوسياسية أن تؤثر في عملية صنع القرار في طهران لصالح الأسلحة النووية. ففي الوقت الحالي، تدفع طهران كلفة باهظة لتطوير برنامجها النووي دون جني أي من الفوائد الأمنية المتصورة، لكن التخريب أو الضربات العسكرية المصممة لإعاقة برنامج إيران والتصور السائد بين بعض القادة في طهران بأن الغرب يدعم تغيير النظام، من شأنه أن يدفع المرشد إلى استنتاج مفاده أن الأسلحة النووية ضرورية للدفاع عن هيكل الحكم الحالي وسلامة أراضي الدولة. ومن ثم ترى دافنبورد أن “واشنطن في حاجة إلى التصرف بسرعة لإعادة إشراك طهران في المفاوضات إما كجزء من إحياء خطة العمل الشاملة المشاركة، وإما كجهد دبلوماسي جديد، من أجل تهدئة هذه الأزمة”. وترى أن “الوقت قد حان لأن تعود الولايات المتحدة وأوروبا إلى طاولة المفاوضات باستراتيجية جديدة، فيمكن لصفقة محدودة أو سلسلة من الإيماءات التي تمنع مزيداً من التصعيد أن تخلق الوقت والمساحة اللازمتين لمفاوضات جديدة تحمي من وجود إيران مسلحة نووياً على المدى الطويل”.
اندبندنت