المشهد المقفل: لودريان «يستكشف» بعد فشل الاجتماع الفرنسي – السعودي!
من المفترض أن يتزامَن وصول المبعوث الرئاسي الفرنسي وزير الخارجية السابق جان ايف لودريان الى بيروت، مع جولة على عواصم المنطقة ستقوم بها مساعدة وزير الخارجية الاميركي لشؤون الشرق الاوسط بربارة ليف.
صحيح ان ليس هنالك رابط مباشر بين الزيارتين لكن خطوط الشرق الاوسط المتشابكة تؤثر على بعضها البعض أحياناً كثيرة. لودريان آت في جولته الاولى في اطار المهمة التي أوكله بها الرئيس الفرنسي، والتي سيغلب عليها الطابع الاستطلاعي رغم انها تحصل بعد القمة التي جَمعت ماكرون بولي عهد السعودية الامير محمد بن سلمان، والتي تطرّقت الى الملف اللبناني. أما ليف فهي تجول في المنطقة لاستكمال مهمة رئيسها وزير الخارجية انطوني بلينكن حول القضايا المتعلقة بإسرائيل وعلاقاتها مع الدول العربية وما يُطرح حول تأمين ظروف التطبيع مع السعودية.
بداية، إنّ الاجتماع الفرنسي – السعودي الذي حصل في باريس لم يحمل معطيات جديدة حاسمة للازمة التي تخنق لبنان. وهذا ما يمكن استنتاجه بوضوح من العبارات التي صِيغَ بها البيان الرسمي الصادر عن المجتمعين. فجرى الاكتفاء بضرورة وضع حد سريع للفراغ السياسي المؤسساتي في لبنان، لكن من دون ايراد اي تفاصيل اضافية. المعلومات الواردة الى بيروت تحدثت عن اعادة طرح ماكرون للصيغة الرئاسية نفسها ولو بأسلوب مختلف، ما فاجَأ الوفد السعودي بعدما كان توقّع تعديلاً في الموقف الفرنسي. ونُقل بأن الفرنسيين طرحوا إما مساعدة سعودية لإقناع ايران بالعمل على تليين موقف «حزب الله» او الذهاب الى التفاهم مع «حزب الله» وفق ما يطرحه في مقابل تحقيق مكاسب في مواقع اخرى داخل مؤسسات الدولة اللبنانية. لكن السعودية التي تخوض اختباراً حاسماً لعلاقتها الجديدة مع ايران خصوصا في اليمن، لا ترى ان الظروف الحالية تسمح بطرح الملف اللبناني على طاولة الحوار بينهما كَون مصيره هو الفشل المحتوم وأن هذا سيعرّض عندها الحوار السعودي – الايراني القائم لاحتمالات التوتير فيما المطلوب تبريد الساحات لا العكس، وحماية العلاقة الجديدة الناشئة. وهي تدرك سلفاً ان ايران لن تقدم اي تنازلات في لبنان في ظل ميزان قوى لصالح «حزب الله».
امّا بالنسبة للقبول بطرح «حزب الله»، فإنّ السعودية تعتبر ان لديها تجارب عديدة ومريرة مع الملف اللبناني جرى خلالها التعامل معها كمصدر للتقديمات المالية فيما تذهب المكاسب السياسية لاحقاً في اتجاهات معاكسة. لذلك، فهي اخذت جيداً بالدروس التاريخية وبنت قرارها النهائي وفقها.
وتضيف هذه الاوساط في معرض شرحها عن تجربتها الاخيرة بأن السعودية كانت قد أعطت موافقتها على التسوية التي أدت الى وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية في مقابل رئاسة الحكومة ومعها بنود عدة شكّلت يومها التسوية المطلوبة وعلى ان تكون خطوة اختبار مرحلية، لكن النتيجة كانت بالانقلاب على كامل بنود التسوية ومن ثم اعتبار المعادلة التي قامت وفقها بمثابة مكسب نهائي وثابت وهذا ما يتأكد اليوم.
واستطراداً، فإنّ السعودية متمسّكة بشكل نهائي وحاسم بوجوب اعادة بناء المؤسسات اللبنانية خارج نطاق اي محاصصة حزبية كي تبادر هي الى مَد يد المساعدة بالتنسيق مع اوروبا، والّا فهي غير معنية بتاتاً بكل ما يمكن ان يحصل للبنان، فهي لا تريد ان تكرر خسارتها مرة جديدة. وعلى الرغم من ارتفاع ميزان التبادل التجاري لصالح الاقتصاد الفرنسي خلال السنة الماضية، الا ان السعودية قد تعتبر ان سياسة ماكرون تجاه لبنان عانت من تقلبات عدة خصوصاً منذ انفجار مرفأ بيروت، وان هذه السياسة لم تحصد سوى الفشل رغم الضجيج الاعلامي الذي كان يواكبها.
هذا المشهد المقفل في باريس لا بد ان ينعكس على جولة لودريان الاولى الى بيروت وهو ما يؤكد بأنها ستكون استطلاعية ولتجميع الافكار، والاهم بأنها ستكون مهمة طويلة الامد وبهدف ملء الوقت الضائع قبل انتظار حركة اقليمية كبرى تسمح بتحقيق خرق لبناني والمقصود هنا طبعاً ملف العلاقات الاميركية – الايرانية من خلال الملف النووي.
وعلى الرغم من النفي العلني لوزير الخارجية الاميركي حول الاخبار المتناقلة عن قرب الاعلان عن اتفاق جزئي مع ايران، الّا انّ جملة وقائع تؤكد حصول تقدم كبير، وان نفي بلينكن يهدف لحماية التقدم الحاصل لا نفيه.
وقبل ذلك عمدت الادارة الاميركية الى اجراء اختبار لِجَس نبض الجدية الايرانية حيال ما جرى التوصّل اليه فجرى تسريب خبر حصول اجتماع مباشر ما بين المبعوث الاميركي الخاص بشأن ايران روبرت مالي والسفير الايراني لدى الامم المتحدة سعيد ايرواني. وجاءت النتيجة مرضية مع عدم مسارعة ايران الى نفي الخبر. لا بل ان مرشد الثورة خامنئي اعلن بوضوح بأن لا شيء يمنع التوصّل الى اتفاق جديد شرط ان يستوفي شروطاً معينة.
وهذا الموقف هو الاول من نوعه على لسان ارفع مسؤول ايراني وهو ما يؤشر الى اتفاق قريب. كذلك فإن زيارة حاكم سلطنة عمان الى طهران جاءت بعد زيارة منسّق الشرق الاوسط وشمال افريقيا في البيت الابيض بريت ماكغورك الى السلطنة في آذار الماضي للتحاور غير المباشر مع طهران بشأن الصيغة الجديدة بعد ان كانت ايران قد أرسلت اشارات ايجابية حيالها. ووفق ما جرى تسريبه فإنّ الصيغة الجديدة تتضمن تفاهم مرحلي يقضي بوقف تخصيب اليورانيوم في مقابل تحرير أرصدة مالية لإيران مجمدة تصل الى حدود العشرين مليار دولار، اضافة الى التخفيف من بعض العقوبات واطلاق سراح متبادل للسجناء.
وفي دلالة اضافية على قرب حصول الاتفاق تحدث نتنياهو عن قرب تبلور الاتفاق، فيما دخل هذا الملف في الصراع الاسرائيلي الداخلي مع انتقادات عنيفة له من قبل يائير لابيد الذي حمل نتيناهو فشله في منع حصوله.
هنالك من يعتقد بأنه في حال ولادة الاتفاق فسيعتبر مكسباً مهماً لإيران التي تعاني اقتصادياً، وهو ما مسّ باستقرارها الداخلي. كذلك، فإنّ الاتفاق سيمنح طهران سنتين قبل الشروع في الخطوة التالية ذلك ان واشنطن ستنشغل في الحملات الانتخابية وسط صراع غامِض حيال من سيكون في البيت الابيض لاحقاً. ما يعني ان الاتفاق المرحلي سيمنح ايران هدنة السنتين قبل ان تقرر اتجاه سياستها الجديدة في المنطقة. ومنذ حوالى السنتين يوم نفّذت واشنطن انسحاباً مُذلاً من افغانستان، مع اعلان بايدن نيته اغلاق كل الحروب الاميركية في الشرق الاوسط، ساد اعتقاد على نطاق واسع بأن هذا يعني انسحاب واشنطن من المنطقة. لكن سرعان ما عملت واشنطن على نفي ذلك، خصوصاً بعد سعي طهران لملء الفراغات العسكرية خصوصا في العراق وسوريا ولبنان وهذا ما يفسّر الاحتكاكات العسكرية التي تصاعدت بشكل واضح، لا سيما في شمال شرق سوريا. لذلك عمد الجيش الاميركي الى اعادة تثبيت انتشاره، وقام بتزويد قواته في شمال سوريا حيث حقول النفط والغاز بشبكة صواريخ من طراز «هيمارس» معروفة بدقة اصابتها للمجالات البعيدة. الرسالة كانت واضحة للايرانيين، لا سيما بعد تعرض المواقع العسكرية الاميركية لهجمات بالطائرات المسيرة والصواريخ.
وفي الحسابات الاميركية فإنّ الساحتين السورية واللبنانية هما ساحة واحدة مترابطة وهو ما يَطال الامن والسياسة معاً. وخلال زيارة وزير الخارجية السعودي الى ايران سعى الرئيس الايراني الى اجتذاب السعودية الى الضفة الايرانية من خلال اعتباره ان التطبيع مع الكيان الاسرائيلي لن يجلب الامن وتعارضه الامة الاسلامية، وعارضاً للتجربة الايرانية التي وصفها بالناجحة في مواجهة الارهابيين والتكفيريين وهو ما يشكل محور تعاون بين البلدين.
في المقابل، فإنّ السعودية العاملة على تطبيع علاقتها بإيران تبدو وكأنها بحاجة للوقت لاختبار مدى جدية ايران في الساحات الصعبة ومدى استعدادهما للاعتراف بالمصالح الواقعية لكل منهما والاختبار الآن هو في اليمن.
وفي هذه النقطة تتقاطَع السعودية مع واشنطن في المنطقة، وبهذا المعنى فإنّ لبنان موجود في البرنامجين السعودي والاميركي وهما في الوقت عينه ينظران الى مبادرة ماكرون بأنها مبسطة للغاية. وهو ما يفسر ايضاً المقولة الرائجة بأن لبنان ليس اولوية ولكنه في الوقت نفسه ليس متروكاً ولن يكون ضحية التسويات، وانّ الرهان على الوقت قد لا يصبّ في مصلحة المراهنين عليه.
تكفي الاشارة الى العلاقة الدافئة المستمرة بين روسيا واسرائيل، وحيث استعادت موسكو أملاكاً لها في القدس حيث تستعد لافتتاح ممثلية لها. والغريب ان كل ذلك يحصل وسط الحرب العنيفة في اوكرانيا حيث تساعد اسرائيل الرئيس الاوكراني لألف سبب وسبب، فيما ايران تساعد روسيا عسكرياً.
لكن حسابات الشرق الاوسط مختلفة لأن المصالح متعارضة في بعض الأحيان، ولو من دون ضجيج.
جوني منيّر- الجمهورية