فرقة كركلا تستعيد ذكريات القرية على أطلال فينيقيا

لا يزال الفنان الكبيرعبد الحليم كركلا، رائد المسرح الراقص في لبنان والعالم العربي، يصر على التفاؤل اللبناني وعلى التزام مفهوم الشاعر سعيد عقل الوطني عن “وطن الأرز”، متجاوزاً المأساة الكبيرة التي تضرب لبنان، شعباً ودولة و”فكرة”. ولم يكن مفاجئاً أن يختتم عرضه الراقص القديم – الجديد “فينيقيا الأمس واليوم” (مسرح كركلا) بجملة يقولها سعيد عقل بصوته الجهوري عن لبنان الأسطوري أو “الخرافي” الذي “لم يرحل كي يعود”. ومثل هذه الجملة تحفز الجمهور على التصفيق، مع أن هذا الجمهور يعلم أن لبنان يشهد مرحلة من السقوط الفجائعي، رمزياً وتاريخياً وسياسياً واقتصادياً وإنسانياً وطائفياً…

بعد غياب قارب السنوات الخمس فرضه وباء كورونا، يعود كركلا مع فرقته وفريقه إلى المسرح، متحدياً الظروف الصعبة جداً، مستعيداً عرضاً كان قدمه عام 2018 في مهرجان جبيل بعنوان “فينيقيا الماضي والحاضر”، لكنه، بصفته معلماً في فن الرقص والكوريغرافيا والمسرح الشامل، عمد إلى إعادة صوغ العرض السابق في عرض جديد عنوانه “فينيقيا الأمس واليوم”، مضيفاً وحاذفاً، بل ومبلوراً المشهدية الكاملة السابقة، ببراعته المعهودة في رسم اللوحات والمشاهد الغنية جدا والباهرة، عبر أجساد الراقصين وحركة الممثلين، وعبر الموسيقى والغناء والبُعد الدرامي.

كان الموضوع الفينيقي ملائماً لمهرجان جبيل الذي يقام على شاطئ المدينة العريقة في فينيقيتها، لا سيما أن كركلا استعاد شخصية الملك أحيرام وجعل في مقابله الفرعون رمسيس الثاني وابنه آمون، على رغم انتمائهما إلى حقبتين تاريخيتين متباعدتين نسبياً. لكن إعادة تقديم العرض في صيغته الجديدة رسخ هويته، ففينيقيا حالة وجدانية وحضارية، ولو أن سعيد عقل وجماعته حصروها في لبنان، بينما هي تشمل سوريا وفلسطين والشاطئ كله الذي تقع عليه هذه البلدان.

جماليات فينيقية وإغريقية

كانت بداية العرض بديعة مع العرس الفينيقي الإغريقي المتخيل الذي جمع بين أحيرام وابنته العروس سيديروس، وابن الفرعون رمسيس الثاني، العريس آمون، في المعبد، وفي احتفال شبه طقوسي، تجلت خلاله اللوحات الراقصة، المستوحاة من الفن الفينيقي والفن الإغريقي، حركة ولباساً وتعبيراً. لكن هذا العرس لن يكتمل إلا بصرياً ويحلق بما حمل من جماليات راقصة ومسرحية وكرويغرافية وسينوغرافية وديكوراً، فالعروس الفينيقية ترفض القران بابن الفرعون وتفر ليلة العرس مع حبيبها. ولكن عوض أن يتحول العرس إلى صراع ومواجهة، يصبح مناسبة للبهجة خصوصاً مع الرقصة التي تؤديها العروس الهاربة مع الحبيب.

بدت مشهدية الاحتفال الفينيقي الإغريقي غاية في الإبداع والخلق الفني، وتضافرت فيها جهود كركلا وابنته اليسار وابنه إيفان، عطفاً على الإضاءة (جاكوبو بانتاني) والسنيوغرافيا (غيلاينو سبينللي)، والموسيقى (رضا عليغولي) والأزياء… جو احتفالي طقوسي احتل المستويات الثلاثة للمسرح (المعبد، ساحة الرقص، الجدار الثالث)، وقد ملأته أجساد الراقصات والراقصين والممثلين، بالحركة والإيقاع والرموز التي تعود إلى الحقبتين التاريخيتين (الأيدي، الوجوه، الملابس…). وشكلت جدارية المسرح شاشة تُبث عليها رسوم ولوحات تتبدل بحسب المشاهد المتعاقبة، مرافقة إياها ومانحة العرض مزيداً من البعد البصري التشكيلي.

غير أن العرض سرعان ما يأخذ مساراً آخر أو وجهة أخرى مختلفة كل الاختلاف، فيتم الانتقال من العرس الفينيقي الإغريقي وطقوسياته، إلى جو ريفي صرف، بل إلى القرية اللبنانية في صورتها المركبة على الطريقة الرحبانية (بعض مسرحيات عاصي ومنصور) وقد أضاف كركلا إليها بعض الحواشي. هنا الحارة “التحتا” وهناك الحارة “الفوقا”، ولا بد من خلاف ثم صلح يشهد عليه شيوخ القرية وعقلاؤها. لكن الخلاف ليس على الماء والنبع والخيرات (كما في مسرحية “جسر القمر” مثلاً) بل على الزواج المدبر بين فضلو، ابن الماركيز أبو فضلو، وليلى ابنة هندومة. لكن الزواج وفق العادة التقليدية، لن يتم، فالفتاة ليلى لا تحب فضلو بل شاباً آخر، تهرب معه.

الحارتان والخلاف

وعوض الحارتين الرحبانيتين، تنقسم القرية هنا إلى حي رأس الجرد وفيه مزرعة هندومة وابنتها ليلى، والتل العالي وفيه مزرعة المركيز فضلو وابنه. وقد يسأل سائل: لماذا يسترجع كركلا رائد المسرح الراقص صورة القرية القديمة التي استُنفدت فكرة ووجوداً في مسرح الرحبانيين ومسرح روميو لحود وبعض الأعمال الأخرى، ما دام كركلا نفسه تخطى المسرح الرحباني البلدي والجو القروي عموماً في أعمال بديعة وطليعية بلغ فيها ذروة عطائه الفني وإبداعه؟ كيف يمكن نسيان عروض بديعة مثل “الخيام السود” و”طلقة النور” و”حلم ليلة شرق” و”ألف ليلة وليلة” و”زايد والحلم” وسواها، وقد جالت بها فرقة كركلا على مسارح عالمية بارزة في اليابان وإيران والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا ومعظم العواصم العربية؟ هذه العروض هي التي صنعت مدرسة كركلا الفريدة والمتفردة رقصاً وكوريغرافيا وجماليات وموضوعات، ورسخت نموذجاً بل مثالاً فنياً ترك أثره اللامع في حركة الرقص اللبناني والعربي.

واستعان كركلا بالممثل الكبير غبريال يمين والممثل منير معاصري الذي حضر صامتاً جالساً على كرسي العرش، والمطرب سيمون عبيد. وحضر الممثل الكبير رفعت طربيه بصوته، صوت شخصية “هبلون” الطريفة التي أداها على الخشبة الفنان الراقص فرنسوا رحمة ببراعة. هذا الشخص قد يكون شبيه مجنون أو “أخوت” ساحة القرية، وأضفى كركلا الكثير من الطرافة والسخرية الملطفة في اختيار العريس فضلو الثري، ممثلاً قصير القامة حتى ليكون قزماً. أما الفنان عمر كركلا فيطل ما قبل نهاية العرض ليقطف التصفيق كعادته في كل عرض مؤدياً رقصة محلية سريعة.

ولئن لم يحمل القسم الثاني من المسرحية جديداً في عالم كركلا، بل بدا مستعاداً ومكرراً على رغم التجدد الكبير في الفرقة الراقصة وعناصرها، وعلى رغم اتساع المشهدية التشكيلية الساحرة بألوانها، فبدا القسم الأول الفينيقي الإغريقي أكثر جدة وتطوراً وانفتاحاً على الحداثة، مع أنه يدور حول موضوع أسطوري قديم. ولعل كفة هذا الفصل تميل إلى أليسار وإيفان اللذين وضعا لمساتهما عليه تحت أشراف الأب المعلم. وهنا لا بد من طرح سؤال: هل يتمكن إيفان وأليسار من الخروج يوماً من عباءة الرائد والمؤسس الذي خلق لغة جدية في الرقص العربي والعالمي؟ ما أصعب أن يكون لهما أب في حجم هذا الفنان الخلاق الذي يعد الخروج عنه تحدياً كبيراً، يذكر بخروج زياد الرحباني العبقري عن عبقرية الأخوين رحباني.

ليت كركلا عمد إلى عرض صورة سلايد، عن انفجار مرفأ بيروت الذي دمر المدينة وبدا رمزاً لدمار لبنان، عندما جرى الكلام في العرض عن بيروت الأسطورة التي لا تموت. كان الجمهور يحتاج إلى أن يتذكر في لحظات الانبهار الفني والخيالي، أن بيروت لم تعد كما كانت، وأن الخراب يحل بها كما بوطن الأرز. تحتاج بيروت اليوم إلى الرثاء ولا يكفيها أن نتغنى بها متجاهلين مآسيها الكبيرة.

اندبندنت

مقالات ذات صلة