خاص: د. هيثم الفوال يتصدّر غلاف اهم مجلة طبية عالمية.. ويتحدث لنا عن “الثورة”!
في زمن الثورة.. في زمن الانتصار على الظلم.. في زمن مُقاومة العين للمخرز.. في زمن انتفاضة المُعذّبين في الأرض على وجعهم.. ونزول الشباب إلى الشارع رافعين الشعارات المؤكدة عدم الرحيل حتى تحقيق المطالب..
ورغم كل الظلم والظروف المأساوية، إنسانياً، معيشياً، اقتصادياً، اجتماعياً، وحتى أمنياً، التي مرَّت ولا تزال تسيطر على حياة اللبنانيين، وليس آخرها حرب اللقمة، وصراع الدولار والليرة، وانهيار كل أوجه الأمل بالبلد، في ضوء ضرائب طالت الفقراء، وابتعدت عن طريق الأثرياء، ما استتبع انفجار بركان الوجع، عابراً للطوائف، متجاوزاً حدود الصمت، وكاسراً حاجز الخوف، ليعم البلد من أقصاه إلى أقصاه.
وبما أنّنا شعب صورتنا لدى العالم أجمع شوّهها سياسيونا حتى تربّعت نفاياتنا على صدر الـCNN… وبما أنّنا أيقونة علّمنا العالم الحرف، ولا نزال ننقل أنصع وأجمل صورة عن إنجازات ونجاحات… فكيف بهذا الشعب أنْ تليق به حياة الذل والهوان والفساد والسمسرات والسرقات.. كان لموقعنا لقاء مع صاحب إنجازات، وصورة ناصعة عن لبنان الأبيض الجميل، طبيب جرّاح لا تليق به وبشعبه إلا صفة “وطن النجوم”.. هو الدكتور هيثم الفوال..
ولكن آثرنا هذه المرة أنْ نقف ونتكلم مع الدكتور- الإنسان، على مشارف الثورة، ونقرأ في ما لها وما عليها، ونتطرّق الى رأي أهل الطب في واقعنا السياسي، وما إذا كان ليل الثورة سينجلي عن فجر أبيض، لوطن لا يستحق إلا الجمال.
*كيف تصف انتفاضة الشعب اللبناني الحالية على أهل الحكم والفساد؟
– “بداية، لبنان بلد آلاف العقول والمفكرين والعلماء والفنانين ورجال الدين، والناجحين وأصحاب البصمات المُشرّفة إقليمياً وعالمياً، طيلة مئة سنة مرّت منذ إعلان “دولة لبنان الكبير”، لكن للأسف ورغم كل هذه البصمات التي طُبِعَتْ، إلا أنّه بقيت في الإطار الشخصي، فأبداً لم تكن لدينا دولة منذ مئة عام إلى اليوم، وأبداً لم تستنفر الدولة جهودها لدعم الطاقات المُبدعة في شتى المجالات، والذين يرفعون إسم بلدهم عالياً في المحافل والأوساط الدولية.
لذلك أنا كطبيب أتفّهم جيّداً معنى الانتفاضة الشعبية الحاصلة اليوم، فما هي إلا صرخة وجع، تسأل: أين الدولة التي يُفترض أنْ تدعم الطالب في مدرسته، والشاب في جامعته “توفّر له فرض العمل والطبابة والعيش الكريم”، والكهل في شيخوخته والمرأة في تحصيل حقوقها؟؟؟
فحينما ننظر إلى المشهد اللبناني، نجد أن أغلبية هذا الشعب يعاني، بل أوشك على الوصول بأكمله إلى ما دون خط الفقر، فيما الاقلية ينعمون بالثراء الفاحش، من هنا فإذا عدنا إلى تاريخ الثورات نجد أنّ الشعوب تتحمّل لفترة، ولكن ليس على الدوام، خاصة أنّ الأوضاع المزرية كلما مرّ الوقت عليها، كلما تراكمت وازدادت سوءاً، ومن يقول بأنّ بقاء الثورة سيؤثر علينا سلباً، فأنا أسألهم: وهل كانت حالنا أفضل؟، وماذا سيحصل أكثر مما حصل، مررنا بسلسلة من الاعتداءات الإسرائيلية، والحروب الأهلية والطائفية والمذهبية، و”الخي قتل خيو”، لكن في النهاية “حرب اللقمة والكرامة” أصعب حرب يمكن أن يخوضها الإنسان، فحينما يشعر بأنّ كرامته في خطر، ممكن أن يدوس على كل ما يقف عائقاً في طريق انتفاضته، فلا سلطة تدعم، ولا قضاء يحكم بالعدل، والجوع يقرع الأبواب، والفقر يقضى على كل إمكانيات الحياة، لذلك انفجر البركان، وخرج الشعب إلى الشارع.
ومع تحفّظي على مَنْ يقولون أنّها ثورات مموّلة خارجياً أو من السفارات، من المؤكد أنّ كل ثورة يمكن أنْ يدخلها طابور خامس، وهذا لا ننكره، لكن يجب ألا نكذب على أنفسنا، ونزعم أنّ كل الشعب المُنتفض مموّل من هنا وهناك، إنهم شباب وشابات لبنان يتحدثون بلسان حال غالبية الشعب اللبناني الصامت.
*هل تأخّرت ثورة الشعب اللبناني؟
– أبداً لم نتأخّر، ولا يوجد معنى لكلمة “تأخّرنا”، لكن من المؤكد أيضاً أنّ الشعب الذي عاش تجربة الحرب الأهلية، وفرّقته على مدى 30 عاما، في ظل أوهام مارسها عليه زعماء الطوائف والسياسيون بأنّه لولاهم لن يعيش، ولن يحصل على وظيفة، فآمن الشعب بذاك البيك والزعيم والمسؤول، إلى أنْ وصل الوقت، الذي خرج اللاوعي عن صمته، وأدرك الناس أنّ الزعماء “كلن يعني كلن” كاذبون، وتستحضرني الآن كلمة لأحد النواب، التي أصبحت “ترند” يومها، عندما قال في كلمة له خلال إحدى الجلسات التشريعية مؤخّراً: “هنّي (الشعب) بيعرفوا إنو نحنا عم نكذب عليهن، ونحن منعرف إنو هني بيعرفوا إنو نحنا عم نكذب علين”، وهذا المضحك- المبكي.. ولكن الشباب استيقظوا ليقولوا لكم كفاكم كذباً ونفاقاً وسرقة.
نحن نعرف أنّ كل الأموال المنهوبة من الشعب، تتحوّل إلى الخارج، في أرصدة جماعات الحكم وأرباب الطوائف، في المقابل نرى الحالة التي يعيشها الشعب بكل طوائفه: شيعة، سُنّة، مسيحيون على تنوعهم، دروز، أرمن وحتى من يوصفون بالأقليات، كلهم مستضعفون، لم يبق إلا أهل السلطة الذين يتقاسمون بينهم مداخيل هذا البلد ومن الامثلة على هذة القسمة: المطار، الجمارك، الكهرباء، الاملاك البحرية ومستقبلاً النفط.. واللبنانيون باتوا يدركون هذا الوضع وقد وصلوا إلى مرحلة اللاعودة، إنها الانتفاضة ولا شيء نخسره.
*لكن لماذا الآن، وما الذي جعل الشعب ينتفض، حتماً هي ليست قضية الـ”واتساب”؟
– القارئ لتاريخ الثورات يعرف جيداً، أنّها لا تكون وليدة رد فعل، بل هي نتيجة تراكمات، بعدما يكون الجوع، الفقر، الغلاء، الحرمان، ضياع الأمن، انعدام الاستقرار، كثرة الهجرة والبطالة، بلغت حدود لا أمل معها أبداً، فكانت تلك القضية الشعرة التي قسمت ظهر البعير.
كطبيب أنقل وجهة نظر أغلب زملائي الذين يرفعون شعار “خلّي إبني يخلّص علمه ويسافر”، وهو ما يعني حجم الفجوة بين المواطن والمسؤول المُتسبب بانعدام الثقة بالبلد، فالأهل لا يريدون لأبنائهم أن يعيشوا المعاناة في وطنهم. ورغم أنّ الأطباء يُعتبرون من الطبقة الميسورة، لكن همّهم تأمين الاستقرار لأبنائهم ولو في المهجر، فماذا يكون حال الفقير والعاجز عن دفع القسط أوتأمين مستلزمات أبنائه، فهذا كله يفجّر الثورة بشكل أو بآخر، لأنّها ثورة حرمان مزمن، ممزوج بفقدان الكرامة، فمن خسر كرامته كيف يمكنه أن يرضى بهذه الحال، وليس صحيحاً أن الثوار كفروا بأوطانهم، بل هم كفروا بمن يحكمون هذه الأوطان، ويتظاهرون من أجلها.
*هل “سوس الفساد” نخر الجسم الطبي أيضاً؟
-رُبما، وبكل موضوعية أقولها، فالطبيب إنسان أولاً وأخيراً، وكما يوجد محامٍ مرتشٍ ومهندس منحرف، يوجد أيضاً أطباء فاسدون، لكن المهم ألا نعمّم، والمشكلة أنّه حتى النقابات أصبحت مُسيّسة تماماً ككل شي في هذا البلد.. فالنقابات لا تحاسب الكثير من المخالفين، لأنّ لديهم محسوبيات وهناك من يدعمهم ويقف خلفهم، لذلك يتحركون براحة، دون حسيب أو رقيب، لأنّ محاسبتهم ستُعتبر كأنها محاسبة طائفة ومنطقة وفئة سياسية، وهو ما يُراكم المشاكل، التي أصبح حجمها في لبنان كبيراً.
*هل شاركت في التظاهرات وبأي صفة، كمواطن، أو طبيب عضو في نقاء الأطباء؟!
-لا لم نتلق دعوة من النقابة، بل تحركاتنا عفوية.. انا مثلا أبلغ من العمر 50 عاماً، وبقدر ما نعشق بلدنا نيأس منه أحياناً، فالوطن ليس فقط المكان الذي نُقيم فيه، بل هو شعورنا بالمواطنة، المحبّة، والولاء بالفرص المتكافئة للجميع والعدالة بين الناس . نحن كشعب وصلنا إلى مرحلة الاستسلام في هذا البلد، لأننا عاجزون عن التغيير، ولقد مررنا بالحرب الأهلية وكل الحروب، فعشنا اليأس والإحباط، إلى أنّ حرّكنا الشباب، فأبنائي أصرّوا على الانتفاض، والنزول إلى الشارع، فيما كنت أكرر على مسمعهم: “لن أنزل، فلا شيء سيتغير”.
من هنا، الشباب هم الثورة، الذين رفضوا ضعف الماضي، وقرأوا أزماتنا النفسية وعذاباتنا كأهل، مُتطلعين إلى الانتفاض على الواقع المأزوم، بعدما شاهدوا عبر مواقع التواصل، كيف أنّ العالم من أقصاه إلى أقصاه يغلي، ونحن نيام، فاندلعت ثورة الشباب، التي لا أعتقد بأنّ أحداً قادر على إطفائها.
*هل قرأت في عيون أبنائك الذين كانوا سبب مُشاركتك بالثورة، بلوغ حال اليأس من الواقع اللبناني؟
– لا أبداً، وذلك بسبب التربية التي زرعتها فيهم، هم بلغوا مرحلة الانتفاض، ولا مجال لليأس أو مُغادرة البلد. أنا أعشق وطني، ومررتُ بظروف صعبة جداً، اضطرتني للسفر إلى الخارج، لكن هنا انتمائي وأهلي وناسي و”مش كل حدا صار عندو مشكلة بيترك البلد”، هذا مازرعته في أبنائي، فهل هذه البذرة التي زرعتها، ستنمو وتترعرع؟، لا أعرف، لكنني أؤمن بأنني زرعت فيهم بذرة وطنية صالحة.
*هل تتهيّب من خيبة أمل لدى الشباب، إذا لا سمح الله فشلت الثورة؟
– أنا أرى أنّ أي فشل هو تجربة، ممكن أن يخيب أملهم في مكان ما بألا يحصلوا على كل شيء حلموا او نادوا به، ولكن كل شيء ممكن، وباستطاعة الإنسان أن يصل اليه بالمثابرة، ويبقى الأهم أن يطالب الشباب في الساحات بالشيء المقبول والواقعي، اي الا تصل احلامهم الى دولة افلاطون.. وهناك ضرورة مُلحة لوجود جهات تمثل الشباب، للدخول في مفاوضات للوصول إلى حل ما…
*هل تؤيّد دخول ممثّلين عن الحراك في حوار مع السلطة؟
– هناك مطالب مبدئية، استقالة الحكومة وقد حصلت، لذا عليهم الآن تشكيل لجان والدخول في مفاوضات، لا ان يكتفوا بالحوار عبر التلفزيونات، وبعد تشكيل حكومة بعيدة عن الاحزاب يجب الحديث عن قانون انتخابي جديد وانتخابات نيابية مبكرة للشروع في إسترجاع الاموال وبناء الدولة والاصلاح الاقتصادي والغاء الطائفية السياسية.
*كمواطن لبناني أولاً وكطبيب جرّاح ثانياً، ما هي أقصى طموحاتك من هذه الثورة؟
-لا بُدَّ من مُحاسبة مَنْ استفادوا “على ضهر البلد” خلال السنوات الثلاثين الماضية، واستعادة المال المنهوب، إذ لا يجب أن تموت الثورة باستقالة حكومة، ويبقى مَنْ سرق المال العام يسرح ويمرح، وكأنّ شيئاً لم يكن، بل يجب استرجاع المال العام، ورفع السرية المصرفية، بأنْ تشمل الأموال خارج لبنان، وأموال الذين نهبوا المال العام وأسرهم ، بالاضافة إلى توافر التعليم والطبابة للطبقات الفقيرة، وطبعا القضاء العادل الذي هو أساس بناء الأوطان..
*ما الذي تأمل أنْ يتطوّر في القطاع الطبي من خلال دولتنا؟
-القطاع الطبي قطاع مزدهر في لبنان، لكن على مستوى فردي، والسبب أنّ لبنان بلد صغير “كلنا 4 ملايين شخص”، لكن لدينا مقدرات طبية هائلة، تستقطب سياحة طبية من كل العالم، ولو أنّ الحكومة تُعطي أولوية لهذا الأمر لعاد لبنان “مستشفى الشرق الاوسط”، من خلال تأمين المستشفيات بأسعار أرخص، خصوصاً أنّ الفاتورة الاستشفائية في لبنان هى من الاغلى في العالم، لذا نطالب بدعم القطاع السياحي الطبي . ولا يكون ذلك إلا بسياسة وزارية ونقابية ، وليس سياسة شخصية أو فردية.
*في ختام 2019 ستحتل غلاف مجلة طبية عالمية، ماذا يمكنك أن تخبرنا عن الحدث؟
– كأطباء لبنانيين أكدنا حضورنا واحترامنا في المنتديات العالمية بشكل كبير، لهذا السبب فإنّ مجلة “Obesity Surgery” التابعة لـ”الجمعية العالمية لجراحة السمنة” (IFSO)، التي تصدر في أميركا، خصّصوا لي غلافاً، تضمّن نبذة عن أهم إنجازاتي ومسيرتي المهنية، فهم نظروا الى الإنجازات التي قُدِّمَتْ من عمليات نادرة ومميزة، أضف إلى ذلك تدريب اطباء من مختلف بلدان الشرق الاوسط والبحوث العلمية بالرغم من نقص المواد والمعدات في بلد عانى من الحروب الاهلية، وهي ستصدر في شهر كانون الأول / ديسمبر المُقبل.
*كيف بالإمكان إيصال هذا الإنجاز الى وزارة الصحة على سبيل المثال؟
– أنا لم أعمل يوماً من أجل إيصال إنجازي إلى أحد، وكأكاديمي لا أؤمن بالسعي إلى الشهرة، بل على الآخر البحث عمَّنْ يعمل ويحقق إنجازات لوطنه، وحتماً سيصلهم الأمر، لأنّ هذه المجلة يقرأها اهم الاطباء وتنتشر في العالم أجمع.
*لنتطرّق قليلاً إلى مؤتمر البدانة الذي من المقرّر إقامته قريبا؟
– أوّل مرّة في تاريخ لبنان يحصل مؤتمر الشرق الاوسط وشمال أفريقيا للسمنة في بيروت ، هو مؤتمر عالمي يحتضن أطباء الوطن العربي وأطباء أوروبا وأميركا للتباحث في احدث التطورات والتقنيات في علاج السمنة ، وكل الامل ان تتحسّن الأوضاع لأنّ المؤتمر سيكون على مستوى عالمي وذلك في آذار 2020.
*ختاماً، ماهي رسالتك للثوار أولاً.. ثم للدولة؟
– رسالتي للثوار هي أنّه أجمل ما في الحياة “الحلم”، لكن علينا إدراك سقف الواقع، لأن الحماس وحده لا يكفي، فالثوار أصحاب عقول نيّرة ويدركون السقف الذي لا يجب القبول بما دونه، ولا بد من ألا يراهنوا على امور غير قابلة للتطبيق، مع احترامي لكل طموحاتهم كشباب، وبالتالي عليهم الاستفادة من خبرة من هم اكبر منهم، كما عليهم ان يستمروا حتى تحقيق الحد الادنى الممكن.
أما الدولة “التي آمل رحيل سلطتها الحالية”، أناشدها ألا “تستخف” بالشعب الذي ينتفض، فالقصة ليست شدّ عضلات، بل هناك شعب ثائر، وبالتالي على الدولة ان تسمع له، وألا تكابر، فكل زعيم من موقعه قادر على الاعتراف بخطئه، والتنازل لصالح وطنه الذي لا يمكن تسميته تنازلاً، فليبادروا وليفعلوا شيئا لبلدهم، وينالوا رضى الناس..لأن التاريخ سوف يلعنهم جميعاً إن لم يصححوا المسار الذي يقود لبنان وشعبه إلى الانهيار.. “بادروا ولا تكابروا”..
مقابلة أجريت بتاريخ: 2 نوفمبر 2019
خاص Checklebanon