هل يعود نعيم قاسم إلى المصيطبة…أم يبقى في حارة حريك ودهاليزها؟
كان يجمع أطفال المنطقة وفتيتها حوله. يجلس خلف طاولة يطلق عليها البيارتة اسم “الطبليّة” المخصّصة لقراءة القرآن وتلاوته في المساجد، إن غاب أحدهم عن الحلقة كما كانوا يطلقون عليها تراه يذهب بعد الدرس مباشرة قاصداً منزل الغائب سائلاً مطمئنّاً عن سبب الغياب.
يعرف جيل الستّينيات وأوائل السبعينيات في منطقة المصيطبة ببيروت الشيخ نعيم قاسم جيّداً كما هو يعرفهم. الرجل كان “أستاذ الحلقة”، كما كانوا يسمّونه في مسجد المصيطبة، الملاصق لقصر آل سلام حيث زعامة المصيطبة التي تتمدّد في الكثير من مناطق بيروت. ليس هناك من طفل أو شابّ في زمانه إلّا وحفظ على يديه سورة من القرآن أو جزءاً من أجزائه وبخاصّة “جزء عمّ”.
كانت حلقة الشيخ نعيم قاسم تُعقد في الزاوية الأولى من المدخل الغربي للمسجد حيث انتصبت بعد الترميم والتوسعة الأولى للمسجد عام 1975 خزانة زجاجية كبيرة أُطلق عليها اسم “المكتبة” تحتوي على كتب دينية متنوّعة بين الفقه والتفسير والتاريخ للكبار والصغار. المفارقة في هذه الزاوية من المسجد أنّها المكان نفسه الذي اعتاد المصلّون أن يروا فيه الرئيس تمّام سلام جار المسجد و”ابن الحبيب صائب بك” كما كان يُطلق عليه صبحي عيتاني أحد “قبضايات” آل سلام وشقيق والد رئيس بلدية بيروت السابق جمال عيتاني وهو يؤدّي صلاة الجمعة بعد سنوات. زاوية استراتيجية لأنّها تساعد تمّام بك على عدم تجاوز رقاب المصلّين عند دخوله، ففي ذلك ركن من أركان آداب ارتياد المساجد.
ضمّت منطقة المصيطبة كبرى مناطق العاصمة بيروت في أواخر الستينات وأوائل السبعينات، تنوعاً سياسياً طائفياً عريضاً. يقع فيها منزل كمال جنبلاط قائد اليسار والحركة الوطنيّة، ومنزل صائب سلام زعيم التقليد السنّي السياسيّ حليف المارونيّة السياسيّة، وإلى جانبه صالون حلاقة للحاج حسن رعد والد النائب محمد رعد الذي كان يقصده صائب سلام بشكل دوريّ. صالون الحاج رعد كان مكتبة فكريّة دينيّة في الوقت نفسه. كُتب السيّد قطب “في ظلال القرآن” و “معالم في الطريق” إضافة إلى كتب حسن البنّا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين تتصدّر واجهة المحل، وما بين صالون الحلاقة والمكتبة تحوّل الدكان إلى مركز غير رسمي لحزب الدعوة يتقاطر إليه المعجبون بفكر السيّد محمد باقر الصدر وبنجومية رجل الدين الشاب الذي بدأ ينتشر صيته السيّد محمد حسين فضل الله، وكان الشيخ نعيم واحداً من هؤلاء حيث يقع صالون الحاج رعد في منتصف الطريق ما بين مسجد المصيطبة ومنزل العائلة في “كركول الدروز”.
الداعية نعيم قاسم
كان الشيخ نعيم، الرجل الثاني في مسجد المصيطبة بعد الداعية المربّي الشيخ أسامة الخاني القادم في أوائل الستّينيات من جبل الأكراد في دمشق، وتحديداً من مسجد أبي النور في ركن الدين حيث المقرّ الرئيسي لمريدي مفتي سوريا في حينه الشيخ أحمد كفتارو، أحد مشايخ الصوفية النقشبنديّة في دمشق والمقرّب من نظام حافظ الأسد. فيما يأتي بعده مباشرة الشيخ زكريا عميرات، وهو أحد أبناء كبرى العائلات الكردية في لبنان.
أدّى الشيخ نعيم دور الداعية بكلّ ما للكلمة من معنى. كان يصطحب طلّاب حفظ القرآن والسيرة النبوية في نهاية كلّ أسبوع في رحلة إلى البحر في منطقة الروشة قاصدين مكاناً يعرفه البيارتة جيّداً اسمه “الدالية” والبعض يطلق عليه اسم “المغارتين”. يسبح الطلاب في البحر وهم يرتدون السراويل التي تغطّي الجسم من الصرّة إلى الركبة، وهي عورة الرجل وفقاً لمذهب الإمام الشافعي، وعندما يحين موعد صلاة الظهر يقف الشيخ نعيم بهم إماماً، وإن غاب يتقدّم الشيخ زكريا. ويقف مرتادو المكان من أهل بيروت يتأمّلون صفوف الفتية وهم يؤدّون الصلاة، ثمّ بعد اختتام صلاة الظهر لا بدّ من كلمة توجيهية للشيخ نعيم، ثمّ وصلة من الأناشيد النبوية تطرب السامعين والمتفرّجين.
الرحيل إلى “النبعة”
فجأة ومن دون مقدّمات طلب الشيخ نعيم كما يروي الرواة الذين عايشوه في مسجد المصيطبة لقاءً منفرداً مع الشيخ أسامة الخاني الذي كان يحضر من دمشق إلى بيروت كلّ 15 يوماً، أي مرّتين في الشهر، وأيضاً كما ينقل الروّاد، وخلال اللقاء همس للشيخ أسامة مستأذناً ترك الدعوة في مسجد المصيطبة والذهاب إلى “النبعة” حيث كان يسطع نجم الإمام موسى الصدر ومعه نجم الإمام محمد حسين فضل الله. ومن حينه غاب الشيخ نعيم عن المصيطبة ومسجدها، كما غاب أهله عن منزلهم في المنطقة، حيث ارتفعت مكانه بناية جديدة. واللافت أنّ مكان منزل عائلة الشيخ نعيم يبعد أمتاراً قليلة عن المكان الذي استهدفته مسيّرة إسرائيلية يوم الأحد الفائت في منطقة مار الياس.
شكّلت نقطةَ تحوّل رحلةُ الذهاب إلى “النبعة” والتلمذة على يد السيّد فضل الله. لم تمنعه دراسته الدينية من نيل درجة البكالوريوس في الكيمياء من الجامعة اللبنانية، ولم تمنعه من العمل الدعوي التنظيمي، فأسّس الاتحاد اللبناني للطلبة المسلمين في بداية السبعينيات، ثمّ انضمّ إلى حركة أمل. وهو انضمام بدأت بذوره بالظهور بعدما غادر مسجد المصيطبة وانتقل للتدريس في الحسينية التي كان طلّاب المسجد السُّنّة وبتوجيه من شخص من آل صفا يقفون عند صلاة الجمعة أمام بوّابتي المسجد الغربية والشرقية حاملين سجّادة الصلاة لجمع التبرّعات من المصلّين عند خروجهم من المسجد، لاستكمال بناء حسينية المصيطبة التي ما دخلها السُّنّة يوماً، ولم يبقَ فيها طويلاً الشيخ نعيم قاسم. وينقل الرواة أيضاً في حينه أنّ الشيخ أحمد زكي تفاحة كان السبب في إبعاد الشيخ نعيم كما السُّنّة عن حسينية المصيطبة. أحد الأصدقاء السُّنّة سنحت له الفرصة أن يحضر جلسة واحدة للشيخ نعيم في الحسينية، وعندما سألته عنها قال: “جلسة سنّية في حسينية شيعية”.
مسار “النبعة” أوصل الشيخ نعيم إلى حارة حريك حتى شغل منصب نائب الأمين العامّ للحزب عام 1991 والأمين العامّ للحزب خلفاً لحسن نصرالله في 29 تشرين الأول 2024.
رحلة مليئة بالأشواك والورود لرجل بدأ حيث أحبّ ووصل إلى حيث شاء القدر وعظائم الأمور. هو رجل الدين الشيعي الذي يهوى العمل الدعوي رغم عدم التحاقه بالنجف أو قم واكتفائه بالمدرسة اللبنانية الشيعية. لم يعتقد يوماً أنّه سيتصدّى لمهمّة الأمانة العامّة في حزب شارك في تأسيسه. حزب يمتهن المعارك والحروب. حزب يعيش أدقّ مراحله المصيرية، وهنا يرتسم السؤال الذي يدور في عقولنا: هل يعود الشيخ نعيم إلى المصيطبة وسيرته كداعية أم تراه يبقى في حارة حريك حيث السياسة ودهاليزها أم ما يعيشه اليوم مهمّة طارئة ستزول؟
زياد عيتاني- اساس