“الآن”… وإلّا: ما سيبقى من الحزب بعد صفقة هوكستين؟
لم يقدّم الحزب سطراً واحداً مكتوباً في ردّه على المقترح الأميركي لوقف إطلاق النار، ولهذا سبب. فالردّ اللبناني الذي صاغه رئيس مجلس النواب نبيه بري بالتنسيق مع الحزب، يصحّ اعتباره لحظة مفصلية في تاريخ الحزب وتاريخ لبنان، تحدّد إطاراً جديداً لسلاحه وأدواره العابرة للحدود.
ما وافق عليه الحزب ليس أقلّ من تفكيك وجوده العسكري جنوب الليطاني ومنع إعادة تسليحه بضمانات دولية، وترسيم الحدود البرّية مع إسرائيل، وإعادة تشكيل السلطة كاملة، من رئاسة الجمهورية إلى الحكومة ومجلس النواب. ويذهب المبعوث الأميركي آموس هوكستين أبعد من ذلك ليقول إنّ ما يبحثه من حلّ يتعلّق بلبنان كلّه، وليس فقط بجنوب الليطاني. وهو بذلك يؤكّد أنّ الصفقة تتجاوز القرار الدولي 1701. فالأمر لا يتعلّق بوقف الحرب فقط، بل بتحديد حجم الحزب العسكري وحدود دوره، وإرساء وضع دائم يفترض أن يستمرّ لعشرات السنين.
“الآن”… وإلّا
على الرغم من أنّ عبارات هوكستين في عين التينة أمس أوحت بأنّ هناك “نافذة” محدودة بإطار زمني (الآن) لاتّخاذ القرار بالموافقة على الورقة الأميركية، فإنّ إطار حركته يوحي بأنّها منوطة بإنضاج مكوّنات الصفقة، وليس بإعلانها على الفور. ذلك أنّ الشروط الدولية والإقليمية لم تكتمل لإمضائها، وما زالت بعض مكوّناتها قيد الإنضاج في سياقات أخرى، بصرف النظر عمّا إذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مستعدّاً للاتّفاق الآن.
اللافت أنّ الحزب يشيع أجواء تفاؤلية ويتّهم السفارة الأميركية بإشاعة الأجواء السلبية. ويبدو أنّه استمع في ذلك إلى نصائح محلّية وخارجية بالقبول بما هو معروض، مع محاولة تحسين الشروط عبر إرفاق الموافقة بتحفّظات تقدّم بصيغة “ملاحظات” و”استفسارات”، وتتعلّق تحديداً بنقطتين هما:
إطلاق يد إسرائيل في تنفيذ الهجمات داخل الحدود اللبنانية تحت عنوان “الدفاع عن النفس”.
وتشكيل لجنة مراقبة وقف إطلاق النار، وحدود صلاحياتها. إذ يرفض الحزب ضمّ ألمانيا وبريطانيا إليها. ولديه ارتياب من إمكانية توسيع دورها لتصبح قوّة تفتيش على الأرض تتولّى التأكّد من تفكيك مواقع الحزب جنوب الليطاني.
ترامب – بايدن… وروسيا
غير أنّ النقطتين أعلاه، على أهمّيتهما، ليستا سوى الجزء الظاهر من إشكالات أعمق تحيط بإمكانية التوصّل إلى الاتفاق:
1- ثمّة التباس حول الجهة الأميركية التي تمتلك المفاوضات ولها المصلحة في إنجاحها: هل هي الإدارة الراحلة أم المقبلة؟
لا شكّ أنّ الأوراق اختلطت بعد الخطوة المفاجئة من إدارة جو بايدن بسماحها لأوكرانيا باستخدام الصواريخ البالستية الأميركية لضرب أهداف في العمق الروسي. وهذا ما أثار تكهّنات حول أهداف التحرّك الأميركي على خطّ التفاوض بين بيروت وتل أبيب. غير أنّ هناك ما يكفي من المؤشّرات إلى أنّ حلقة الرئيس المنتخب دونالد ترامب تبارك تحرّك هوكستين، ربّما ليس لأنّها تريد إبرام اتفاق على الفور، بل لأنّها تريد تحضير الملفّ ليصبح ناضجاً عند تسلّم الإدارة الجديدة.
2- للصفقة مكوّن أساسي يتعلّق بروسيا: التي هي نقطة انطلاق قطار الصفقات في عهد ترامب. فإسرائيل بدأت قبل أسابيع التواصل مع موسكو لاستطلاع مدى استعدادها لتقديم ضمانات في شأن إغلاق منافذ الإمدادات وإعادة التسليح عبر سوريا:
*قبل أيام، جعل وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر من منع نقل الأسلحة عبر سوريا “مبدأ أساسياً يجب أن يبنى عليه أيّ اتّفاق لوقف إطلاق النار”. وقال إنّ موسكو “قادرة على المساهمة بشكل فعّال في تحقيق هذا الهدف”.
*وقبل ذلك، زار وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون درمر موسكو ليبحث الدور الذي يمكن لها أن تلعبه في الضغط على دمشق لإغلاق منافذ نقل الأسلحة الإيرانية إلى الحزب.
*كما كشفت صحيفة واشنطن بوست عن زيارة وفد روسي لإسرائيل الشهر الماضي لبحث الأمر نفسه.
وليس صدفة أن تنشر “وول ستريت” أمس، بالتزامن مع وصول هوكستين إلى بيروت، قصّة عن اكتشاف الجيش الإسرائيلي مخزونات كبيرة من السلاح الروسي “الحديث” في مواقع للحزب في جنوب لبنان، لا سيما صواريخ “كورنيت” المضادّة للدروع. وتشير الصحيفة إلى أنّ روسيا زوّدت الحوثيين بإحداثيات السفن في البحر الأحمر، وأنّها تدرس إمدادهم بالصواريخ المضادّة للسفن. وإذا ما عُطِف ذلك على المعلومات الشائعة عن إمداد إيران لروسيا بالمسيّرات ومساندة إسرائيل لأوكرانيا، فإنّ المكوّن الروسي في صفقة إضعاف الحزب أساسيٌّ للغاية. وما يجري بين بيروت وتل أبيب يرتبط بما يجري بين ترامب وفلاديمير بوتين. ولذلك سيكون من الصعب إنضاج الصفقة في لبنان من دون تقدّم في صفقة إنهاء الحرب الأوكرانية، وهي صفقة يوليها ترامب الأولوية القصوى.
صفقة بين ترامب وإيران
3- سيكون لأيّ اتّفاق مقبل وجه آخر بوصفه صفقة جزئية على الحساب بين إدارة ترامب وإيران، أو على الأقلّ يمكن اعتبارها اختباراً لإمكانية التفاوض وبناء الثقة. ومن الواضح أنّ طهران راغبة باستشكافٍ من هذا النوع ليكون بمنزلة تحوّطٍ من المخاطر المرتقبة في سنوات أربع عصيبة. وقد بدت هذه الرغبة من الأجواء الإيجابية التي أحاطت باستقبال المدير العامّ للوكالة الدولية للطاقة الذرّية رفاييل غروسي في إيران الأسبوع الماضي.
تنضج عناصر الصفقة شيئاً فشيئاً، بغضّ النظر عن الاعتبارات الإسرائيلية. وثمّة جوّ إقليمي جديد بين السعودية وإيران يتيح قبول الأخيرة ضمن النظام الأمنيّ الإقليمي ومعالجة الملفّات الأكثر تعقيداً في المنطقة. وقد تظهّر ذلك في البيان الختامي للقمّة العربية الإسلامية في الرياض، وما تضمّنه من إدانة “للعدوان” على السيادة الإيرانية. وهذه الأجواء توفّر لطهران سلّماً للنزول عن شجرة السيطرة على العواصم وتهديد أمن الدول.
لكنّ السؤال يبقى عن الحدّ الأدنى الذي تريد إيران الحفاظ عليه من الحزب. فإن كانت قد سلّمت بأنّه ما عاد بالإمكان الحفاظ عليه كقوّة عسكرية محاذية لإسرائيل والبحر المتوسط، أو كقوّة عسكرية – أمنيّة ذات أدوار إقليمية تمتدّ من اليمن إلى سوريا والعراق، فإنّ الحدّ الأدنى أن يظلّ قوّة تنفرد بحمل السلاح من بين المكوّنات الداخلية لتظلّ له اليد العليا في صناعة السياسة الداخلية.
يأمل الحزب أن تكون إسرائيل غير مهتمّة بهذا البعد في وجوده، بل ربّما لا ترى بأساً بأن يظلّ سلاح الحزب مشكلة داخلية.
عبادة اللدن- اساس