عصر انتهى مع اغتياله: ما بعد بعد نصر الله!
يُراهن “حزب الله” على مجموعة عوامل لتحقيق انجاز معيّن يُقنع به بيئته أنه لا يزال صامداً ومتماسكاً وقوياً وبعيداً عن الهزيمة والاستسلام، لكن داخل أروقة “الحزب” يجري نوع من التقييم مع قيادات ايرانية حول المرحلة السابقة التي لا يُمكن أن ينكر فيها ما تعرّض له من ضربات نوعيّة من اسرائيل، بلغت الذروة مع اغتيال الأمين العام السابق حسن نصر الله الذي كان يُشكّل رمزاً لقوّته وممانعته، وخصوصاً أنه قاد حقبة مزدهرة لمشروع “الحزب” من خلال سيطرته على قرار الدولة اللبنانية.
بالتأكيد، يعرف “الحزب” أن خسارة نصر الله لا تعوّض، ولو تم تعيين نائبه الشيخ نعيم قاسم مكانه، إلا أن ثمة عصر انتهى مع اغتياله، ولا شك في أن “الحزب” دخل مرحلة جديدة في أصعب الظروف أي في ذروة الحرب الاسرائيلية عليه، مع قرار دولي متّخذ بإنهاء مسألة سلاح “الحزب” وحثّه على أن يتحوّل حزباً سياسياً كسائر الأحزاب اللبنانية.
ما يجري اليوم على صعيد “الحزب” هو مواجهة للدفاع عن الغاء دوره العسكري، ويبدو أنه يُراهن على الميدان وإلحاق أكبر عدد من الخسائر بالجيش الاسرائيلي لتغيير المعادلة، معتبراً أن مجتمع “العدو” لن يتحمّل هذا الكمّ من الخسائر، وسيضغط على رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو لوقف الحرب، فتتغيّر المعادلة وتصبح التسوية المطروحة متوازنة، مع حفاظ “الحزب” على سلاحه وهرميته العسكرية ربما بعيداً عن الحدود اللبنانية الاسرائيلية.
وهذا الأمر لا ينفيه مسؤولو “الحزب” الحاليون مثل الأمين العام الشيخ نعيم قاسم والمسؤول الاعلامي محمد عفيف ونواب “الحزب”. إلا أن الرياح تسير عكس ما تشتهيه سفن “الحزب” ومرجعيته الايرانية، ولا سيما مع انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية الذي لا يبدو متساهلاً مع إيران وأذرعها العسكرية، وأولى العلامات الواضحة لحزمه، إطلاق يد نتنياهو عسكرياً في لبنان من دون ضوابط، بحيث كان الرئيس جو بايدن يشترط على اسرائيل تجنّب قصف بيروت والضاحية بهذه السهولة.
أما اليوم بعد تعيين يسرائيل كاتس وزيراً للدفاع في اسرائيل، فباتت الضاحية وكل أماكن “الحزب” تحت النار الاسرائيلية وفي كل الأوقات، وأطلق الجيش الاسرائيلي حملته العسكرية نحو الخط الثاني من القرى التي يوجد فيها “الحزب” في الجنوب، وهذا كلّه يعكس ارتياح نتنياهو بسبب مرونة ترامب معه، وضرورة إضعاف “الحزب” وتفكيك بنيته العسكرية ليقبل بالتسوية التي تشبه صكّ الاستسلام، ومحورها إبعاد “الحزب” إلى ما بعد نهر الليطاني وقطع طريق إمداده بالسلاح من سوريا وتسليم سلاحه إلى الجيش اللبناني.
في هذا الاطار، يعتبر مصدر ديبلوماسي أميركي أن “الحزب” يُمارس الإنكار، فهو ليس بأفضل أحواله، صحيح أن عناصره يقاتلون في الميدان وخصوصاً في الجنوب، ويقصفون اسرائيل بالصواريخ، لكن هذا لا يُقارن بحجم التفوق الاسرائيلي، والجيش يُحقق أهدافه بتدمير البنية التحتية العسكرية لـ”الحزب” وهو يحاصره براً وجواً وبحراً، وقطع طريق الامدادات عنه.
ويلفت المصدر إلى أنه “يُمكن لمس ضعف الحزب من عدم قدرته على تنظيم دفن لائق بقائده الرمز حسن نصر الله حتى الآن، وهذا ليس مجرد خطأ ديني بل مؤشر عام على الفوضى الداخلية التي يعيشها، واضطر إلى الاستعانة بخبراء عسكريين ايرانيين في الميدان، وهذا يدلّ على فراغ على صعيد القيادة الميدانية والسيطرة، وبعدما كان يُفاخر نصر الله بقدرته على غزو اسرائيل، أصبح هدف الحزب المحافظة على سلاحه وراء نهر الليطاني. إضافة إلى ذلك، هو يُمارس الإنكار عبر عدم الاعتراف بتوغل الجيش الاسرائيلي في قرى الجنوب، علماً أنه حقق ما يريد ولو بكلفة عالية نتيجة خسارته لبعض الضباط والجنود”.
في الحقيقة، سارت اسرائيل بقيادة نتنياهو، خلافاً لمشيئة بايدن الذي كان يريد استرضاء ايران لخوض معركة إنهاء أذرعها العسكرية، إنما ما فعلته اسرائيل خلال شهرين عبر تفجير “البايجرز” واغتيال قيادات “وحدة الرضوان” وتصفية نصر الله ورئيس مجلس الشورى في “الحزب” هاشم صفي الدين، كان أشبه بإنهاء أسطورة “الحزب” الذي لا يُقهر. ويبدو أن الاستخبارات الاسرائيلية اخترقت كل مكان في كوكبة الأذرع العسكرية الايرانية، بما في ذلك داخل إيران نفسها عندما اغتالت زعيم “حماس” إسماعيل هنية في قلب طهران، وقتلت يحيى السنوار على نحو مفاجئ.
ووصف العقيد ريتشارد كيمب القائد السابق لقوات المشاة البريطانية في أفغانستان، الاستنزاف السريع لـ”الحزب” خلال شهرين بأنه “غير مسبوق”. واعتبر البروفيسور تشارلز ليبسون، في مقال كتبه في مجلة “ذا سبيكتيتور” أن الحملة الاسرائيلية ضد الأذرع العسكرية الايرانية هي “التركيبة الأكثر إبهاراً بين الاستخبارات والتكنولوجيا العالية والعمل العسكري الدقيق في العصر الحديث”.
ويشير المصدر الديبلوماسي الأميركي إلى أن قتل نصر الله لم يكن ضربة لـ”الحزب” وحسب، إنما لإيران وتحديداً للمرشد علي خامنئي الذي اختار نصر الله شخصياً لتولي القيادة عندما اغتالت إسرائيل سلفه عام 1992. علماً أن نصر الله كسب هالته الكبيرة في أعقاب انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في عام 2000. ويوضح أن نصر الله كان بالنسبة إلى إيران “تجسيداً للأمل والقوة والمصداقية العسكرية حتى أنها أوكلت إليه قيادة محور الممانعة بعد اغتيال واشنطن لقائد فيلق القدس قاسم سليماني، وباتت بيروت مركزاً تجتمع فيه قيادات الأذرع العسكرية الايرانية”.
أرادت اسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة تكسير رأس “الحزب” الذي يعتبر درّة الأذرع العسكرية الايرانية، ليكون عبرة للأذرع الأخرى، وما بدأ مع اغتيال نصر الله لن يتوقّف حتى إنهاء هذا التنظيم، وباتت اسرائيل مرتاحة أكثر بعد انتخاب ترامب لتحقيق هذا الهدف، لذلك الحرب ستستمر، ويؤكد المصدر الديبلوماسي أنه ستتخللها عروض وتسويات بشروط اسرائيلية وأميركية عالية، إذا لم يقبل بها “الحزب”، ستنتقل اسرائيل إلى مراحل عسكرية أكثر ضراوة حتى تقضي على سلاحه نهائياً.
وفي نظرة بانورامية، ما يحصل الآن هو بداية نهاية النفوذ الايراني الاقليمي، بضوء أخضر اميركي ودولي لاسرائيل، وهي تعمل وفق نموذج قديم نسيه أو تناساه الغرب، لحماية مواطنيه وهو “أقتلوا أعداءكم”. وهذا ما يفعله نتنياهو الآن، بعدما نجح في إقناع الغرب بأن الحرب بين إيران التي تمثّل الشرّ والغرب الذي يمثّل الخير.
حتماً قد لا يكون كل الغرب يمثّل الخير، لكن نتنياهو وترامب يبدوان مقتنعين بهذه النظرية وهي أن الحروب تُـكْسَب بقتل العدو، من هنا أتت فكرة قتل نصر الله الذي كان يُشكّل خط الدفاع الأول عن ايران.
يشعر اللبنانيون أن عصر هيمنة “الحزب” على لبنان أوشك على نهايته، ربما لن تكون الطريق سهلة، إلا أنها أصبحت ممكنة لتستعيد الدولة هيبتها ومؤسساتها للخروج من زمن التخلّف والحروب والفقر والموت إلى عصر الاستقرار والتطوّر والازدهار، وطبعاً شكّل اغتيال نصر الله نقطة تحوّل كبيرة وأساسية.
ويُمكن استخلاص الآتي من انطباعات الديبلوماسي الأميركي الذي يرى أن الاغتيالات الكبيرة في لبنان تسبق التحوّلات الجذرية، هذا ما حصل عندما تم اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميل عام 1982، إذ استعادت سوريا آنذاك السيطرة على أجزاء كبيرة من لبنان بعدما تلقّت ضربات نوعية من اسرائيل سابقاً وتوسّع النفوذ السوفياتي في المنطقة، كذلك عندما تمّ اغتيال الرئيس رينيه معوّض، انقلبت سوريا على اتفاق الطائف، وعندما تمّ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تعاظم دور الشيعية السياسية والنفوذ الايراني في لبنان والمنطقة، وأخيراً سيكون اغتيال نصر الله انتهاء عصر الشيعية السياسية وانكفاء ايران، لتستعيد الدولة اللبنانية مكانتها وعافيتها، وهذه ليست نظريّة إنما واقع نعيشه منذ نهاية شهر أيلول 2024 حتى اليوم!
جورج حايك- لبنان الكبير