قبل المغادرة: بايدن يستخدم “آخر رصاصاته”… ويستعيد ما أصابه من «إهانة»!

نادرة هي الإنجازات التي يمكن أن يحققها أي رئيس للولايات المتحدة الأميركية في الفترة الإنتقالية بين عهد وآخر وخصوصاً عند انتقال السلطة من ديموقراطي إلى جمهوري وبالعكس. ولذلك أخضعت تعهدات الرئيس جو بايدن بالسعي إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة وجنوب لبنان قبل نهاية ولايته في 20 كانون الثاني المقبل للدرس المعمّق بحثاً عن الأسلحة التي يمتلكها وقدرته على استخدام «الرصاصات الأخيرة» ومدى فاعليتها. وعليه ما الذي يقود إلى هذه المستجدات ومدى جديتها؟

بسحر ساحر تلاحقت عشية عطلة نهاية الأسبوع الروايات الواردة من واشنطن وتل أبيب والدوحة وعدد من العواصم العربية التي تحدّثت عن سيناريو جديد يوحي بأنّ المفاوضات الجارية قلّصت الفجوات بين أطراف النزاع وصولاً إلى «اليوم التالي» الذي طال انتظاره. وإن صحت التوقعات السابقة بأنّ أي اتفاق يرضي إسرائيل لوقف عدوانها يجب أن يُبرَم تحت النار، فإنّ الجنون الإسرائيلي واكبه منذ اللحظات الأولى وتحديداً ليل السبت ـ الأحد بغارات لم تشهدها غزة منذ فترة. حتى قيل إنّ الإنفجارات التي سُمعت في تل أبيب ومستوطنات «غوش دان» كان مصدرها الغارات العنيفة على شمال القطاع حيث استُخدمت قنابل خارقة للتحصينات وأخرى ثقيلة لم تعرف تلك المناطق مثيلات منها من قبل.

وكل ذلك كان يجري، بالتزامن مع استمرار مسلسل الغارات على الأراضي اللبنانية التي توسعت خلال عطلة نهاية الأسبوع إلى عمق جبل لبنان حيث تسبّبت بمجزرة بشرية في بلدة علمات الجبيلية، تزامناً مع غارات شملت بالإضافة إلى اليومية منها في قرى الجنوب من شاطئه في القطاع الغربي حتى أطراف القطاع الشرقي وعمقهما إلى مناطق البقاعين الأوسط والشمالي وصولاً إلى نقاط حدودية، كما في جوار العاصمة السورية وتحديداً في منطقة السيدة زينب، إذ أفيد عن مقتل عشرات المواطنين من بينهم مسؤولون حزبيّون، ومنهم سليم عياش المحكوم من المحكمة الخاصة بلبنان في جريمة «14 شباط» التي أودت بالرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه. وهي عمليات أسفرت عن عشرات الشهداء من بينهم نساء وشيوخ وأطفال عدا عن عناصر جمعية «كشافة الرسالة الإسلامية» و»الهيئة الصحية الإسلامية» ولم تستثنِ متطوّعي الصليب الأحمر.

وفي هذه الأجواء توقفت مراجع ديبلوماسية بحيرة واستغراب لا حدود لهما، عند ما تسرّب عقب سيناريوهات التهدئة والسلام التي سوّقت لها تل أبيب، أنّ رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي صادق مساء الأحد على توسيع العملية البرية في لبنان وهو ما زرع الشكوك لجهة سوء النيات وصولاً إلى اعتبار أنّ كل ما تناقلته وسائل إعلامهم عن أجواء التهدئة مجرّد أوهام، أو أنها لجسّ النبض والحؤول دون بناء أي جسر ثقة بين القادة العسكريّين والساعين إلى أي حل سياسي، وهو ما ينعكس على نفوس المواطنين حيثما استهدفوا بآخر ما أنتجته الآلة العسكرية.

وقالت هذه المراجع عند دخولها في التفاصيل، إنّ ما هو ثابت أنّ إسرائيل تتقن كل أشكال الحرب النفسية وهي مهمة جنّدت لها وسائلها الإعلامية، ومنها «هيئة البث الإسرائيلية» وبعض المحطات التلفزيونية ومعها مجموعة القنوات التلفزيونية التي كثفت من أخبارها العاجلة متحدّثة عن «تقدّم ملموس في المحادثات عن الجبهة الشمالية»، وأنّ الحديث يدور حول «اتفاق جيد جداً لإسرائيل يلبّي مصالحها بنحو أمثل». كما أشارت إلى «إمكانية وقف إطلاق النار في الجبهة الشمالية لتجنّب أي قرار من مجلس الأمن إن لم تستخدم واشنطن حق النقض» كما قال محلّلون إسرائيليون.

لكن وأمام ضخ مثل هذه المعلومات بكثافة، لم تُخفِ المراجع الديبلوماسية سخريّتها من الإشارة إلى «المخاوف من قرارات مجلس الأمن» وتزامنها مع ما قيل عن اجتماع لمجلس الوزراء الأمني والسياسي ليل الأحد من أجل البحث في مستجدات مفاوضات التسوية في الشمال. ذلك أنّه ليس على علم أحد بوجود أي جلسة لمجلس الأمن في المدى المنظور يتناول الوضع في المنطقة. إلّا في حال كانت تل أبيب تخشى قراراً يصدر عن منظمة «الأونيسكو» التي يلتئم مجلسها التنفيذي في الأيام المقبلة في حضور وزير الثقافة اللبناني والمدير العام، للبحث في شكوى تقدّم بها لبنان بهدف حماية المواقع الأثرية المحمية من قِبلها والتي تهدّدها الغارات الإسرائيلية عن سابق تصوّر وتصميم وقد ألحقت بها أضراراً خطيرة، وردّت عليها إسرائيل بشكوى مماثلة لم تعرف دوافعها وإن كان أي من مواقعها الأثرية مستهدفاً، كما فعلت بقصف مناطق مجاورة لقلعة بعلبك وآثار صور، عدا عن تدمير البيوت التاريخية في الجنوب المدرجة على لائحة الآثار العالمية والمشمولة برعاية المؤسسات الدولية والأممية.

وبعيداً من هذه المعادلات المتناقضة، والسباق المحموم بين التطوّرات السلبية الجديدة التي نسفت سابقاتها الإيجابية، بقي الرهان قائماً على بعض المعلومات التي تسرّبت من واشنطن عن وجود النية بإمكان أن تمارس إدارة بايدن مزيداً من الضغوط على إسرائيل لوقف الحرب والاكتفاء بما حققته حتى اليوم في غزة ولبنان بالتنسيق والتفاهم مع الرئيس دونالد ترامب الذي يرغب بطَي الأزمات الكبرى قبل دخوله المكتب البيضاوي وهو ما سيترجمه اللقاء بينهما غداً الأربعاء. ذلك أنّه، وإن كانت أهداف الحرب القضاء على حركة «حماس» فقد قضت على معظم قادتها، وإن بقيَ مسلّحون في الأنفاق فإنّ الأيام المقبلة كفيلة بتعطيل أدوارهم متى تحقق أي اتفاق سياسي. والأمر نفسه يمكن أن ينسحب على الجبهة الشمالية، فقد قضت إسرائيل على قادة «حزب الله» من رأس الهرم إلى معظم القيادات من الصفَين الثاني والثالث، وأنّ أسلحتهم لم تعُد تشكّل أي خطر على أمنها في ظل تدمير منظومة «القيادة والسيطرة» إلى درجة كبيرة. وإنّ أي اتفاق تدعمه لجنة مراقبة يتمثل فيها الأميركي والفرنسي توفّر ضمانات إضافية لتطبيق القرار 1701 مع ما قال به القراران 1559 و 1680 من دون ذكرهما. ذلك أنّ القرار 1701 يؤكّد كثيراً ممّا قالا به ويترجمه بدقة.

وبناءً على ما تقدّم، يبدو للمراقبين الديبلوماسيّين أنّ خفض التصعيد في الفترة الفاصلة عن نهاية ولاية بايدن بات على قاب قوسَين أو أدنى من التجربة، ويمكنه عندها أن يستخدم آخر رصاصاته، فلا يترك البيت الأبيض قبل أن يستعيد ما أصابه من «إهانة» على يَد نتنياهو. كما سيوفّر لترامب ما أراده من أجل عملية تسليم وتسلّم سلسة، فتمرّ الأيام الفاصلة عن موعدها بتنسيق تفرضه الأعراف بين الخلف والسلف، بما يوفّر لكل منهما ما يريدانه في الداخل والخارج.

جورج شاهين- الجمهورية

مقالات ذات صلة