“الميدان المطاط” الذي ننتظر “كلمته” يتمدّد من الخيام إلى إيران

“الكلمة للميدان” هي اللازمة التي تردّدها قيادة الحزب في تعليقها على جهود وقف النار في لبنان وشروط إسرائيل.

بين ما يرمي إليه استخدام هذه العبارة قطع الطريق على مطالبة دول ووسطاء بوجوب انتخاب رئيس للبنان، قبل وقف الحرب. وهي ترهن مناقشة التفاوض على آليّة تطبيق قرار مجلس الأمن 1701 بما بعد وقف النار.

لكنّ رقعة “الميدان” الذي يعتبر الحزب أنّه يبلي بلاءً حسناً فيه، اتّسعت على المساحة الجغرافية اللبنانية، قتلاً وتدميراً. كما أنّها اتّسعت إقليمياً مع تنوّع أساليب المواجهة. فإسرائيل لجأت إلى عمليّات الإنزال لخطف من أعلنت أنّهم مسؤولون في الحزب أو يتعاونون مع الحرس الثوري في سوريا ولبنان.

ما يراه خصوم الحزب وإيران استنزافاً وخسائر له، تعتبره طهران هزيمة لتل أبيب لمجرّد نجاح مقاتلي المقاومة في تأخير تقدّم قوّاتها. فالمقاومون يتقنون حرب العصابات، وهم أبناء الأرض التي يعرفون كيف يناورون فوقها وتحتها للتصدّي للتوغّل الإسرائيلي. كما أنّ في صفوفه خبرات قتالية لا يستهان بها ثبت أنّها قادرة على “إيلام” إسرائيل، عند اختراقها الحدود، وعلى مواصلة إطلاق الصواريخ والمسيّرات إلى شمال ووسط الدولة العبرية.

الميدان القتاليّ المطّاط

لكنّ المواجهة الإيرانية الإسرائيلية فرضت ميداناً قتالياً مطّاطاً. إذ إنّ أهداف تل أبيب المدعومة أميركياً وأوروبياً تتعدّى ضمان أمن جنوب الدولة العبرية من غزة، وإزالة تهديد أمن المستوطنين المهجّرين، إذا عادوا، من جنوب لبنان. فطموح بنيامين نتنياهو تغيير الشرق الأوسط، الذي يعني حسب قول مصادر دبلوماسية غربية لـ”أساس” تغيير موازين القوى الإقليمية. إلا أنّ هذا التغيير سيأخذ وقتاً يطيل الحرب في لبنان مثلما حصل في غزة.

رقعة الميدان الذي يراهن الحزب على الانتصار فيه تمدّدت لبنانياً يوم قرّرت إسرائيل إلغاء قواعد الاشتباك باغتيال الأمين العامّ للحزب. ومنذ ذلك الحين لم تعد تقتصر على قرى الحافة الأمامية وبعض الضربات لما بعدها، ولا على شمال إسرائيل:

* باتت الجغرافيا اللبنانية كلّها مستهدفة، منها القرى شمال نهر الليطاني، بعد التوسّع في القصف الإسرائيلي للمواقع الواقعة جنوبه. بات الميدان يشمل بلدة أيطو في زغرتا، وتدمير جسر في بلدة أكروم المتاخمة للحدود اللبنانية السورية في عكار في أقصى شمال لبنان. إضافة إلى قرى في الهرمل وبعلبك شرق لبنان، مروراً بضاحية بيروت الجنوبية، على بعد عشرات الكيلومترات عن الحدود مع إسرائيل.

ميدان التّدمير وإذلال البيئة

*مع نجاح المقاومة في استهداف تل أبيب وحيفا، وما بعد حيفا، بالصواريخ والمسيّرات، لا مجال لمقارنة الخسائر التي تطال إسرائيل بحصيلة التدمير في معظم المناطق اللبنانية. وهو تدمير ممنهج يتعدّى هدف جعل القرى الحدودية غير قابلة للسكن، بحجّة تدمير البنى التحتية للحزب، لإقامة شريط أمنيّ عازل.

*مقابل الخسائر الاقتصادية جرّاء تهجير سكّان الجليل الإسرائيليين، وحرائق الأراضي وجمود النشاط الاقتصادي في وسط الدولة العبرية جرّاء صواريخ الحزب، تعرّض لبنان لكارثة اقتصادية غير مسبوقة. تركّز الطائرات الإسرائيلية على تدمير المناطق الشيعية في الجنوب (بما فيها حارة صيدا) والضاحية الجنوبية والبقاع من دون هدف عسكري. فبحجّة استهداف مزعوم لمسؤول ما في الحزب تُسقِط القنابل الفراغيّة أبنية بكاملها، وتفجّر مستودعات تجارية أو مصانع صغيرة. بات واضحاً أنّ تل أبيب تخلق ميداناً شبه مسطّحٍ في المناطق الحاضنة للحزب، لإفقار بيئته وجعل قدرتها على النهوض شديدة الصعوبة. الهدف الإسرائيلي إذلال تلك البيئة بفعل التهجير الجماعي، وتنغيص العيش عليها في مناطق النزوح. قد تصحّ المراهنة على انتفاض الجمهور الواسع لكرامته بحيث يتمسّك بولائه للحزب. لكنّ الرهان الإسرائيلي هو على أن ترخي تداعيات التدمير والقتل بنتائج سلبية على علاقة تلك البيئة بالحزب. هذا جزء من تحدّيات الميدان الاقتصادية والسياسية والمعنوية.

الانهيار الاقتصاديّ وتداعيات الحرب

*التداعيات السلبية على النسيج الاجتماعي اللبناني وعلاقات المكوّنات اللبنانية بعضها مع بعض في احتساب مدى اتّساع رقعة الميدان، لا تقف عند التناقضات في شأن الخيارات السياسية والعسكرية. التحدّي الاقتصادي يرخي بثقله على امتداد الميدان اللبناني. وقبل الحديث عن كلفة إعادة الإعمار، السياسية قبل المالية، فإنّ أثمان التعاطي مع النزوح باتت تثقل على خزينة الدولة الخاوية. وصرف المساعدات الدولية التي قرّرها مؤتمر باريس في 24 تشرين الأوّل يحكمه انتظام المؤسّسات الدستورية اللبنانية وانتخاب الرئيس. لذلك ارتفعت أصوات الدعوات من الحزب للإنفاق ممّا في جعبة مصرف لبنان ووزارة المال لتلبية حاجات النزوح. وهذا يحمل في طيّاته مخاطر العودة إلى استخدام الاحتياطي في المصرف المركزي، الذي تسبب بانهيار 2019 الماليّ والمصرفيّ.

توحيد الحملة الإسرائيليّة في لبنان وسوريا

في اليومين الماضيين طغت أخبار الإنزال الإسرائيلي في مدينة البترون اللبنانية، وفي بلدة صيدا في محافظة درعا السورية، على أخبار نجاح المقاومة في إفشال محاولة إسرائيل اختراق مدينة الخيام الجنوبية. كما أنّ الاهتمام بتطوّرات الميدان اتّجه نحو التهيّؤ الإيراني، بأمر من المرشد، للردّ على ضربة إسرائيل لإيران وقصفها مواقع عسكرية.

امتدّ الميدان الذي ننتظر كلمته من كفركلا وعيتا الشعب، وصولاً إلى طهران، مروراً بسوريا التي تقصفها الطائرات الإسرائيلية كلّ يوم، والعراق واليمن.

للتدقيق أكثر بالنسبة إلى لبنان، فإنّ بنيامين نتنياهو جدّد توسيعه رقعة الميدان العسكري، بحيث باتت الرقعتان اللبنانية والسورية واحدة. قال أثناء زيارته شمال إسرائيل قبل يومين: “ضربنا كلّ مناطق لبنان. مع أو من دون اتّفاق، المفتاح لاستعادة السلام والأمن في الشمال ولإعادة سكّاننا بأمان إلى منازلهم هو إبعاد الحزب إلى ما وراء الليطاني أوّلاً وقبل كلّ شيء”.

أردف: “ثانياً سنضرب أيّ محاولة تقوم بها جماعة الحزب لإعادة التسلّح. ثالثاً يجب قطع أنابيب الأوكسجين عن الحزب من إيران عبر سوريا، نحن ملتزمون بكلّ هذا”.

علاوة على أنّه نموذج عن مطّاطيّة رقعة الميدان، فإنّ الضربات الإسرائيلية في بلاد الشام متّصلة بالمواجهة في لبنان. بموازاة حجّة استهداف شحنات أسلحة تتهيّأ طهران لنقلها إلى الحزب، انتقلت تل أبيب إلى مرحلة جديدة بتنفيذ الإنزالين في سوريا ولبنان لخطف من تزعم أنّهم يهرّبون السلاح للحزب. سبق ذلك شبه إقفال للحدود بين البلدين بالقصف، حتى على النازحين من لبنان إلى سوريا، وهو ما تسبّب بتفاقم أزمتها الاقتصادية الحادّة. وحسب معطيات دبلوماسية أن إسرائيل أبلغت الدول التي على علاقة بالنظام السوري، ومنها روسيا، أنّها قد تعيد النظر في الموقف من بقاء بشار الأسد لتجاهله تهريب السلاح إلى لبنان. ذهبت تل أبيب إلى حدّ اعتبار الأسد مسؤولاً عن مقتل كلّ جندي إسرائيلي في المنطقة الشمالية بالسلاح المهَرَّب من سوريا إلى الحزب. كما أنّها حمّلته مسؤولية التراجع الاقتصادي الإسرائيلي بفعل الحرب مع الحزب، نظراً إلى الأسلحة التي يتلقّاها عبر سوريا.

… والرّئاسة الأميركيّة

لا يملك الحزب في مراهنته على كلمة الميدان سوى دعوة مناصريه إلى الصبر الطويل. هذا في وقت يخضع اتّساع رقعة ميدان المواجهة لحسابات طهران وتل أبيب في شأن نتائج الانتخابات الرئاسية في أميركا اليوم. باتت مراهنة كلّ منهما واضحة، ولكلّ منهما مرشّحه المفضّل. لكنّ الدوائر الغربية ترى أنّ موقف المرشّحة الديمقراطية كامالا هاريس لم يعد مختلفاً عن موقف دونالد ترامب حيال طهران، خصوصاً لجهة تشديد الضغوط عليها قبل التفاوض معها على النووي ونفوذها الإقليمي. ثنائي بايدن هاريس فرض عقوبات على طهران أقسى من تلك التي سبق لترامب أن قرّرها.

ما الفائدة من ربط الحلول السياسية وتطبيق القرار 1701 بالميدان، ما دام ما يجري في واشنطن لن يغيّر في جوهر موقف الإدارة العتيدة في واشنطن من مواصلة إسرائيل حربها، على الأقلّ حتى 20 كانون الثاني المقبل، تاريخ تسلّم الرئيس الجديد مهمّاته؟

وليد شقير- اساس

مقالات ذات صلة