ويلات بلد وأسئلة مُعقّدة: العيش مع “الحزب”… ومن دونه؟
قد يكون مُبرّراً ومفهوماً أن يلقى الحزب تضامناً مصدره جزء وازن من الشيعة، لكن ما ليس مفهوماً صمت الشيعة عموماً والسكوت على هذا الحزب بعد افتتاحه الحرب مع إسرائيل منذ الثامن من تشرين الأول 2023.
الأشدّ وطأة هو سكوت اللبنانيين عن مدى التعايش مع الحزب، والارتكاس عن التفكير في خيارات بديلة، منها التفكير في إطلاق حركة سياسية للبحث في المستقبل. وإذا كان خيار انتظار “نصر” إسرائيلي هو خطأ وخطيئة تُنذر بحربٍ أهلية، فإنّ الأشدّ خطورة هو التضامن اللبناني مع الحزب كأحد وجوه الاحتجاج حيال صمت العالم على مأساة الحرب وضراوتها.
أمّا أن يُرفع الحزب إلى مصافّ “الحركة التحرّرية والثورية” فهذا إنّما يُجافي الطبيعة الحقيقية لهذا التنظيم المُسلّح عنوةً عن الشرعيّتين الوطنية والدولية. وهذا يُجافي طبيعة الحزب التي يستحيل التعايش والاستمرار معها. فالتضامن معه قد يكون مُبرّراً في أحد وجوهه من بيئة الحزب نفسها لأسباب عمليّة وحياتيّة، وهذا ليس تفصيلاً بسيطاً في معرض تشريحه لبنانياً.
إذا أضيف الموقع اللبناني من الشرعيّتين العربية والدولية إلى التوازن الداخلي المعقود اللواء للحزب، جاز لنا أن نتوقّع مزيداً من العزلة المعمولة من احتراف الحزب اختصار الطائفة الشيعية ومعها لبنان، وصار لزاماً احتساب نهاية الحزب بعد هذه الحرب الإسرائيلية التي بدأت بتفجير أجهزة “البايجرز” و”التوكي ووكي”، ثمّ الهجمات المباشرة على البلد بعد ذلك بأيام، وكان من فائض “بشائر” حرب الإسناد والمشاغلة استهداف الأمين العامّ للحزب.
أشكال الحياة السّياسيّة
بغضّ النظر عن الرهان إذا كان سريعاً أو بطيئاً، وإذا كان ممكناً اليوم أو لا… لكن نحن أمام مفصل كبير جدّاً في لبنان وفي المنطقة يتطلّب منّا التفكير خارج الصندوق. فقد تشكّلت الحياة الوطنية في لبنان منذ عام 2005 حول الحزب:
ـ هناك فريق سياسي دبّر شؤونه من خلال العلاقة الموالية للحزب، ومن كلّ الطوائف وليس فقط عند المسيحيين.
ـ يوجد طبعاً هناك من تشكّل في مواجهة الحزب، لكن كان ذلك على درجات ولم يكونوا كلّهم يشبه بعضهم بعضاً.
تحوّل الحزب بعد عام 2005 إلى العمود الفقري للحياة السياسية والوطنية في لبنان نظراً إلى حجمه، ونظراً إلى قدرته العسكرية ولاختصاره شبه المطلق لطائفته، على قاعدة ارتباطه الإقليمي بإيران. وحَولَ هذا الحزب تمحورت الحياة الوطنية وأصبح هو الفيصل للمسرح السياسي في لبنان.
ويلات بلد وأسئلة مُعقّدة
مع الحرب الدائرة اليوم، فإنّ هذا الواقع انتهى وليس له مستقبل. ومثلما يتراجع الحزب بسبب وجوده، فهو ينهار أيضاً ومعه المسرح السياسي القديم:
ـ المسرح السياسي الذي كان موالياً للحزب ينهار.
ـ المسرح السياسي الذي كان على خصومة مع الحزب، أيضاً ينهار. وصار لبنان على موعد مع المستقبل مثلما المنطقة على موعد مع مستقبل ما.
السؤال الذي ينبغي معالجته الآن لضرورات لبنانية هو ما إذا كانت هناك قوى سياسية قادرة على تدبّر المعالجة الفورية والتحوّل إلى حركات سياسية وثقافية قادرة على ملاقاة هذا المستقبل وظروفه، أكان في لبنان أو المنطقة؟
إذا قرّر تسليم سلاحه
من أحد الأمور التي أربكت الساحة السياسية الداخلية في لبنان، هو معرفة الحزب ماذا فعل، لكنّ المجهول عنه هو ما إذا قرّر أن يسلّم سلاحه اليوم فما هي قدرته على فعل ذلك بمعزل عن القرار الإيراني؟ وبالتالي مطالبة الحزب بتسليم سلاحه للدولة اللبنانية ينبغي الارتكاز فيه على أحقّية الاستجابة للدستور وقرارات الشرعية الدولية. قد تكون هذه المطالبة خُلّبيّة أو مطالبة بأحسن الحالات، وإذا كانت عن حسن نيّة، غير واقعية.
الإمرة على سلاح الحزب ليست بين يديْه. الإمرة هي أمر إيراني صافٍ، وبالتالي إذا كان هناك فريق يسعى إلى المطالبة بأيّ شيء من أجل ترتيب الوضع الداخلي للبنان، يجب أن يتوجّه إلى إيران، وليس إلى الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم.
الأخطر في ظلّ الظروف الراهنة أنّ الحرب وطبيعتها تشيان بأنّها مديدة الزمن لأنّ إيران لن تسلّم سلاحها ولا أوراقها في المنطقة، لا باليمن الحوثيّ ولا بالعراق ولا بسوريا ولا بلبنان قبل انتهاء انتخابات الرئاسة الأميركية و حتّى تسلّم الرئيس مهامه في 20 كانون الثاني، ونفاد الاستثمار السياسي في القرار الدولي بالقضاء على نفوذ إيران وأذرعتها القويّة والمُسلّحة خلافاً لكلّ الشرعيات الوطنية والدولية، والمُخالفة لطبيعة وفكرة الدولة.
الأرجح أنّ هذا الوقت كافٍ لوجود حركة سياسية مُعاصرة في لبنان تستند إلى الدستور ووثيقة الوفاق الوطني القائمة على نهائيّة الكيان وعروبته والعيش المشترك وعلى قاعدة المواطنة، وهذه أوّل نقطة.
النقطة الثانية هو التطوّر الميداني الذي يحدث يوماً بعد يوم في لبنان. إذ عندما يُحكى بالقرار الأممي رقم 1701، يجب أن يكون النقاش مع إيران لأنّه لا يوجد في لبنان أيّ أحد ليُصار إلى النقاش معه ما دام الحزب آتياً ويؤمن بولاية الفقيه. فالحزب لن يسلّم سلاحه إلى الدولة اللبنانية لأنّ هذا أمر إيراني، وأيضاً بنيامين نتنياهو لن يرضى باستمرار الأمور على ما هي عليه سابقاً وراهناً. ولن يذهب إلى وقف إطلاق النار إلا بعد تدمير الحزب حتى لو كان هذا التدمير سيؤدّي إلى تدمير كلّ لبنان.
الجبهات المستحيلة والانتظار المملّ
هناك من يصرّ على أنّ الحزب لا يزال موجوداً ويقوم بما شرعن وجوده عليه، أي التهديدات الإسرائيلية، وهذا صحيح وواضح. لكن ما زالت الجبهات القديمة قيد التشكّل وتحت عنوان السيادة، أي لزوم ما لا يلزم. صار ضرورياً تعريف السيادة على أساس الدستور ووثيقة الوفاق الوطني، بمعنى أنّه يجب الانتقال إلى ضرورة وجود حركة دستورية ترتكز بحركتها على الدستور فقط، أي الدولة الطبيعية والعاديّة التي تنتج سياسة واقتصاداً وثقافةً.
النفوذ الذي كان يتمتّع به الحزب في لبنان، والقدرة على تشكيل الحياة الوطنية في لبنان، اهتزّ، وبالتالي من الطبيعي والضروري لمصلحة البلد وجود قوة سياسية ديمقراطية لنقل لبنان والمسرح السياسي معه إلى مكان جديد يُعاين المستقبل والمصلحة في المنطقة. وليس من داعٍ بعد الآن لكتف الأيدي وانتظار نتائج المشكلة أو الحرب من أجل التكيّف مع نتائجها.
كان “إعلان بيروت” (عام 2004) أوّل وثيقة سياسية معاصرة تلاقي الأحداث. الإعلان جاء بعد 11 أيلول 2001، وبعد دخول الجيش الأميركي أفغانستان ثمّ العراق في عام 2003 وقبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري. آنذاك طُرح مانيفست سياسي في لبنان كان اسمه “إعلان بيروت”. وحول هذا الإعلان كان “لقاء البريستول” الذي جمع مروحة واسعة من اللبنانيين، إنّما كان يوجد نصّ سياسي اسمه “إعلان بيروت”.
هذا الإعلان ونجاحه في خلق “وطنية لبنانية” قد يكونان وحدة قياس لإنشاء حركة سياسية تبحث في استحالة العيش مع الحزب، لأنّ الأسئلة هي: ماذا نريد بعد هذه الحرب؟ ماذا نريد خلال هذه الحرب؟ ومن نريد بعد هذه الحرب؟
هكذا قياساً بالتحوّل الذي فرضته الحرب يُشكّ كثيراً في أن يبقى الحزب على وضعيّته وأحواله في لبنان والمنطقة على الرغم من المآخذ الجدّية والأصليّة عليه. أمّا المواقف المُتضامنة معه فليس سرّاً أنّها استجلبت حمماً برّية وجوّية.
ايمن جزيني- اساس