كيف ستقبض إيران ثمن الضّربة… وهل الرّدّ من غزّة ولبنان؟
أخيراً نفّذت إسرائيل تهديداتها. أطلقت عملية جوّية، على ما يبدو “مركّبة”، من مقاتلات حربية ومسيّرات، استهدفت مواقع عسكرية في ثلاث محافظات إيرانية، هي العاصمة طهران في الوسط وخوزستان في الجنوب وإيلام في الغرب.
بغضّ النظر عن حجم وعدد الطائرات التي استخدمتها تل أبيب في هذا العدوان والاستهداف، فإنّ طهران في المقابل تحدّثت عن أضرار “بسيطة” لحقت بالمواقع المستهدفة، وأنّ الدفاعات الجوّية استطاعت التصدّي الفعّال للطائرات والصواريخ التي أطلقت في الهجوم… فما هي معاني هذا الردّ؟ وكيف ستقبض إيران ثمنه لتوافق على عدم الردّ: من لبنان إلى غزّة… إلى “عمر” النظام؟
على الرغم من محاولة إيران التقليل من حجم وآثار الهجوم الإسرائيلي على العمق الإيراني، إلا أنّ البيان الصادر عن قيادة الجيش الإيراني أشار إلى سقوط اثنين من عناصره. وهو ما يضع القيادة الإيرانية أمام حقيقة واضحة، وهي ضرورة الردّ لأنّ هذه العملية لم تعد مجرد استعراض إسرائيلي للقوّة، بل انتقلت إلى مستوى إلحاق الخسائر البشرية، بالإضافة إلى المادّية، وحتماً المعنوية، التي تطال وتستهدف الجانب السيادي والردعيّ الذي تسعى طهران إلى الحفاظ عليه في صراعها مع تل أبيب.
أعلن بيان المتحدّث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال هاغاري استهداف سلاح الإشارة والرادارات العسكرية، وأنّ الأجواء الإيرانية باتت مفتوحة أمام أيّ نشاط عسكري إسرائيلي لاحق. ويبدو أنّ فيه شيئاً من الحقيقة، خاصة أنّ الصورة المنشورة لأحد العنصرين اللذين سقطا من الجيش الإيراني في مدينة “ماهشهر” التابعة لمنطقة “معشور” في محافظة خوزستان، تكشف أنّه برتبة “نقيب” في سلاح الإشارة والرادار.
على العكس من إيران، التي قامت باستهداف العمق الإسرائيلي مباشرة وعلى دفعتين في شهري نيسان وتشرين الأوّل الماضيين، يمكن القول إنّ تل أبيب كسرت حاجز التصعيد الكلامي في تهديداتها لإيران. فقد وجّهت ضربة واسعة لعمقها الجغرافي. وبالتالي نفّذت أوّل هجوم مباشر على الداخل الإيراني. ولم تكتفِ باستهداف مصالحها في مناطق نفوذها في سوريا ولبنان والعراق واليمن، الأمر الذي يفتح الطريق أمام انتقال المواجهة والتصعيد بين الطرفين إلى مزيد من الضربات المتبادلة في حال قرّرا الذهاب إلى المواجهة المفتوحة.
إيران مرتاحة… فهل ستردّ مجدّداً؟
لكن في المقابل، هناك شعور كبير بالارتياح لدى إيران لحجم الضربة الإسرائيلية والمواقع التي استهدفتها. وهي تحاول توظيفه في تعزيز سرديّتها بتراجع وضعف القدرات الإسرائيلية الردعية أو المتفوّقة التي استخدمتها على مدى عقود في تهديد إيران، خاصة أنّ حجم الضربة لم يكن متناسباً مع التصريحات والتهديدات التي سبق أن أطلقتها القيادة الإسرائيلية في المستويين السياسي والعسكري.
بعيداً عن كلّ هذه التقديرات، فإنّ القيادة الإيرانية ستكون في الأيام المقبلة أمام تحدٍّ حقيقي يتعلّق بآلية التعامل مع هذا الهجوم وطبيعة الردّ الإيراني عليه. يُتوقّع أن ينعقد المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، برئاسة أو بحضور ومشاركة المرشد الأعلى للنظام، بصفته القائد الأعلى للقوات المسلّحة وصاحب القرار النهائي المرتبط بالموقف الحاسم من هذا الهجوم.
لذلك من المتوقّع أن يخرج هذا المجلس بموقف حاسم وواضح يؤكّد حقّ إيران في الردّ على هذا الاعتداء وخرق السيادة الإيرانية، خاصة بعد سقوط دماء في صفوف القوات المسلّحة. الا أنّ هذا الردّ سيكون خاضعاً للاستراتيجية التي رسمها المرشد قبل أسابيع في صلاة الجمعة، والتي تؤكّد أنّ القيادة لن تتردّد في الردّ على أيّ اعتداء أو استهداف لمصالحها، إلا أنّها لن تتسرّع في هذا الردّ، بل ستعمل على التروّي ودراسة جميع أبعاده وتداعياته.
هذه الاستراتيجية، وما يمكن أن يخرج عن المجلس الأعلى للأمن القومي من قرارات ومواقف، يضعان القيادة الإيرانية والمؤسّسة العسكرية والإدارة السياسية للدولة أمام خيارات متعدّدة ومفتوحة على جميع الاحتمالات، بما يضمن تحقيق المصلحة الأمنيّة والعسكرية والسياسية.
الرّدّ العسكريّ… أو الثّمن في لبنان وغزّة
من الواضح أنّ الخيار الأوّل لدى هذه القيادة سيكون متمحوراً على خيار الردّ العسكري، الذي سيكون متناسباً مع حجم الهجوم، خاصة أنّ العديد من المسؤولين الإيرانيين، ومنهم وزير الخارجية عباس عراقتشي، سبق أن أكّدوا أنّ الردّ الإيراني على أيّ هجوم سيكون متناسباً في الحجم والنوع والقوّة مع نوعية وحجم الهجوم الإسرائيلي.
الخيار العسكري، الذي يعتبر خياراً سيادياً لطهران، لن يقطع الطريق أمام محاولة القيادة الإيرانية توظيف التصعيد من أجل دفع الإدارة الأميركية، في محاولة لابتزازها، من أجل العمل بشكل جدّي على فرض وقف إطلاق نار دائم وشامل على الجانب الإسرائيلي يشمل جبهتي لبنان وقطاع غزة، الأمر الذي يحقّق الهدف الذي سعت إليه إيران على مدى سنة من الصراع والحرب الدائرة في المنطقة.
الرّدّ من غزّة ولبنان
من ضمن الخيارات العسكرية التي قد تلجأ إليها طهران فتح الباب أمام الجبهة اللبنانية وجبهات الإسناد الأخرى لمستوى جديد من التصعيد “أكثر إيلاماً” للعدوّ الإسرائيلي من خلال رفع وفتح مستوى الاستهدافات التي تقوم بها هذه الجبهات بالتزامن مع استخدام أنواع جديدة من السلاح الصاروخي، بهدف إبقاء الجبهة الداخلية الإسرائيلية تحت ضغط الاستنزاف، بانتظار ما يمكن أن تسفر عنه الجهود السياسية والدبلوماسية الدولية التي سترتفع وتيرتها في الأيام المقبلة لإقناع إيران بعدم الردّ. فإن جاءت هذه الجهود متوافقة مع مصالح إيران، فستعمد إلى إبقاء الأمور على هذا المستوى. وإذا ما فشلت فستكون قادرة وبسرعة على رفع مستوى التصعيد والتدخّل.
وقف إطلاق النار الذي تسعى إليه طهران لن يكون بشروط إسرائيل، بل تحاول إيران استغلال الحاجة الأميركية إلى عدم التصعيد، والعمل للوصول إلى فرض انسحاب إسرائيلي من كامل قطاع غزة، وإطلاق عملية سياسية لإعادة ترتيب العملية السياسية على الساحة الفلسطينية، وحلّ يضمن عدم فرض أيّ شروط جديدة على الحزب، حليفها الأوّل على الساحة اللبنانية، خاصة في ما يتعلّق بتطبيق القرار 1701، أو أيّ تداعيات على المعادلات السياسية الداخلية في لبنان.
ضرب الصنم الإسرائيلي..
لا شكّ أنّ قيادة إيران ستعمل على الاستثمار في هذا الاعتداء بشكل واسع وكبير. وستسعى إلى أن لا يتحوّل إلى حرب واسعة وشاملة لا ترغب فيها ولا تريدها لما يكمن فيها من إمكانية تكبّدها خسائر سياسية واستراتيجية، خاصة أنّها تريد توظيف هذا الاستثمار في تعزيز وتكريس الرؤية الجديدة التي أكّدت عليها مخرجات قمّة البريكس التي عقدت قبل أيام في مدينة قازان الروسية لجهة تعزيز مفهوم التعدّدية القطبية أو مراكز قوى دولية وإقليمية ناهضة خارج الأحادية الأميركية. بالإضافة إلى ما أكّده الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في مطلع خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة حين تحدّث عن سعي حكومته إلى تعزيز موقع إيران على خريطة المعادلة الدولية في ظلّ عالم جديد متعدّد الأقطاب.
هذه المساعي والأهداف الاستراتيجية الإيرانية دفعتني لاستذكار ما سبق أن قاله لي عام 2006 أحد معاوني الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد من أنّ الهدف الاستراتيجي لإيران في المستقبل هو التالي: “علينا أن نحطّم الصنم الإسرائيلي الذي صنعه الإله الأميركي في المنطقة”. وهو الهدف الذي يشكّل محور معادلة الصراع الذي تخوضه إيران في منطقة غرب آسيا. وهذا التوصيف جاء في إطار “دردشة خاصّة” مع معاون الرئيس. كلام سبقه قبل أشهر إعلان إيران التوصّل إلى إنتاج أوّل كمّية من اليورانيوم المخصّب بنسبة 3.5 في المئة بتاريخ 9 نيسان 2006. وتلاه انتهاء حرب تموز بين إسرائيل والحزب في لبنان التي استمرّت 33 يوماً.
الأخطر أو الطموح الأوسع لدى القيادة الإيرانية كان في الشقّ الثاني من كلام هذا المسؤول الذي اعتبر أنّ “تحطيم الصنم الإسرائيلي” الذي سيكون من الصعب “العودة به إلى ما كان عليه سابقاً”، سيؤدّي إلى “إضعاف الإله الأميركي” الذي يدعمه، وبالتالي سيدفعه للاعتراف بالنظام الإيراني كقوّة إقليمية وبدوره وأن يتخلّى عن استراتيجية ضربه أو تغييره أو استهدافه وإضعافه.
حسن فحص- اساس