خامنئي لن يحكم… افتحوا البرلمان بعيداً من الثعلبة وأصوات المطارق
لم يعد سراً أن “حزب الله” في حال انكسار إن لم يكن في حال انهيار جماعي يتوزع بين موت على الجبهات أو تصفيات على الطرقات أو لجوء الى المنافي، بعدما تلقى من اسرائيل ما لا يقوى على تحمله، ومن ايران ما لا يمكن أن يتوقعه.
وليس سراً أيضاً أن ايران بدورها في حال اختناق، إن لم يكن في حال انفصال يتوزع بين جبهة ساقطة في غزة، وجبهة مستنزفة في لبنان، وجبهة متقطعة في اليمن، وجبهة انقلابية في سوريا، وجبهة مترددة في العراق.
والواقع أن أحداً قبل “السابع من أكتوبر” لم يكن يتوقع أن يصيب “حزب الله” ما أصابه، على مستوى القيادة والمواقع والرجال والسلاح، وأن ينجرف شعبه في نزوح جماعي قلَّ نظيره على مدى الحروب اللبنانية كلها، وأن تتحول مناطقه الى أرض محروقة وأكوام من الأنقاض والركام.
والواقع أيضاً أن أحداً لم يكن يتوقع أن يصيب ايران ما أصابها في الأمس وما يصيبها اليوم وما يمكن أن يصيبها في الغد، بعدما بلغت تحدياتها التخطيط لقتل رئيس أميركي سابق هو دونالد ترامب ورئيس وزراء اسرائيلي حالي هو بنيامين نتنياهو، وبعدما بلغت تهديدات اسرائيل حد الوصول الى ايران لضرب خبراء وقادة ومنشآت وترسانات حيوية، وربما ضرب الامام خامنئي نفسه سواء كان فوق الأرض أو تحتها.
وعلى الرغم من نفي ايران أي دور لها في كل ما تلقت من اتهامات مباشرة أو غير مباشرة، فثمة انطباع يسود المنطقة والعالم بأن الحرب التي تخوضها اسرائيل بدعم علني من أميركا وشبه علني من الغرب وخفي من العرب، لا يمكن أن تنتهي مع ايران، الا بغالب ومغلوب بعدما أثبتت نظرية اللاغالب واللامغلوب أنها مجرد استراحة محاربين لا هدنة مضمونة، وهو ما بدأت تدركه الجمهورية الاسلامية التي تحاول عبثاً خوض حروب بالقطعة في محاولة لكسب الوقت في مكان، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مكان آخر وتحديداً في لبنان.
ويجمع الكثير من المراقبين العسكريين على أن احتمال سقوط “حزب الله” أو تحجيمه على الأقل، يعنيان في حسابات طهران، سقوط خط الدفاع الأول عن الثورة الاسلامية من جهة وسقوط الطوق الايراني الأعتى والأقوى حول الكيان الاسرائيلي، واحتراق الورقة الأثمن على أي طاولة مفاوضات، وقطع الأذرع الأمنية والمالية التي يزرعها الحزب في العالمين الغربي والعربي من خلال الجاليات الشيعية المنتشرة بفاعلية في أكثر من مكان من جهة أخرى.
ويتردد في طهران، أن أوامر صدرت من خامنئي لقادة “الحرس الثوري” ببذل كل ما يمكن للحؤول دون سقوط “حزب الله” حتى لو اضطروا الى القتال وجهاً لوجه ضد الجيش الاسرائيلي، معتبراً أن ايران يمكن أن تبتلع سحب غزة من الميدان لكن ليس لبنان. والتصريحات الفجة التي أطلقها وزير الخارجية عباس عراقجي ورئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف لا تأتي من باب الوقاحة الديبلوماسية بقدر ما تأتي من فئة لم تعد قادرة على ممارسة ضبط النفس وهي ترى هيكلاً بنته على مدى أربعين عاماً وهو ينهار دفعة واحدة أمام ناظريها.
وترى مصادر ديبلوماسية عربية أن قاليباف حاول من خلال تصريحاته الأخيرة الوصول الى أمرين: الأول إفهام أميركا أن لبنان بات في عهدة الامام خامنئي، وأن أي تفاوض محتمل يجب أن يتم مع طهران. والثاني إفهام الثنائي نبيه بري ونجيب ميقاتي أن لا شيء ينجز في بيروت من دون ضوء أخضر من طهران أولاً وممن بقي من “حزب الله” ثانياً، معترفاً ضمناً بأن غزة بعد مقتل يحيى السنوار باتت خارج الميدان.
وأكثر من ذلك، تحاول ايران ابقاء النيران اللبنانية مشتعلة الى أقصى حد في محاولة لتأخير الضربة العسكرية الاسرائيلية المرتقبة، وهي الضربة التي باتت بعد محاولة اغتيال نتنياهو، تأشيرة شرعية لملاحقة خامنئي نفسه وربما خلخلة النظام الحاكم في طهران التي تعيش حال حرب ترجمتها طوابير الايرانيين أمام محطات الوقود ومحال الأغذية والأدوية.
وسط هذه الأجواء لم يبقَ أمام ايران الا واحداً من مخرجين: الأول القوة العسكرية وهو أمر غير مضمون، والثاني مساعي الرئيس نبيه بري لدى الأميركيين والسعوديين الذين دخلوا على خط الأزمة بطلب من الشيعة أنفسهم علّهم ينجحون في انتاج مخرج يحفظ ماء الوجه، ويحول دون حسم عسكري يعيدهم الى المربع الأول في التركيبة اللبنانية بعدما تأكد لهؤلاء أنهم وقعوا في كمين محكم وبعدما خسروا غزة والضفة الغربية، وفشلوا في إسقاط الحكم الملكي في الأردن تمهيداً لفتح جبهة جديدة على حدود اسرائيل، وبعدما نأى الرئيس بشار الأسد بنفسه عما يجري في الجوار، لا بل بعدما انقض على مواقع “حزب الله” وعناصره في سوريا انطلاقاً من روايتين، رواية تقول انه أحبط محاولة انقلاب ايرانية، ورواية تقول انه باع رجال الخميني في مقابل رفع العقوبات والعودة الى الحظيرة الدولية.
وهنا لا بد من السؤال هل ينجح الرئيس بري هذه المرة في انتاج حلول ومخارج تماماً كما كان يفعل في مراحل سابقة؟
الجواب طبعاً لا الى حد كبير، اذ إن ما يسعى اليه بري كان يمكن أن يتحقق في جولات المحادثات التي أجراها مع الموفد الأميركي اَموس هوكشتاين قبل اغتيال حسن نصر الله وقبل تفوق اسرائيل على “حزب الله” وغزة في الميدان، وقبل أن يصبح هو شخصياً شخصاً متورطاً ولو شفهياً في الحرب الى جانب محور الممانعة، لا بل وسيط منحاز يحاول حماية سلاحه وسلاح “حزب الله” من خلال فرز القرار ١٧٠١ وتحييد القرار ١٥٥٩، ووقف الزحف العسكري الاسرائيلي الذي يتخوف من أن يفرض مع الأميركيين أجواء تشبه أجواء العام ١٩٨٢. ويكشف مصدر قريب من عين التينة أن بري يحاول الظهور بمظهر من يملك ضوءاً أخضر من “حزب الله” وايران، بينما جل ما يحمله ليس أكثر من تهديد مبطن نقله اليه المسؤولون الايرانيون، محذرين اياه من استغلال نكسة شريكه الشيعي لتنصيب نفسه ولياً على شيعة لبنان أو الذهاب الى حلول تأتي على حساب ايران، وفي مقدمها تطبيق القرار ١٧٠١ كاملاً وانتخاب رئيس للجمهورية من خارج النادي الممانع.
ويضيف المصدر أن بري يعرف أن هوكشتاين اليوم غيره في الأمس، فهو يفاوض هذه المرة في ظل واقع عسكري جديد لم يعد قابلاً لسياسة الثعلبة والتذاكي، وأنه بات بين سيفين: اما الغرق مع “حزب الله” وهو أمر غير وارد، واما الذهاب مرغماً مع الأميركيين وراضياً مع السعوديين الى حل يتقدم به نواب الأمة الى البرلمان المغلق ليرأس جلسة يعدل فيها ما يعدل ويقر ما يقر وينتخب ما ينتخب بعيداً من الثعلبة وأصوات المطارق، وذلك تحت شعار اللهم اني حاولت، لكن لم يكن في الامكان أفضل مما كان.
انطوني جعجع- لبنان الكبير