أشدّ وأعقد عمليات الخداع الاستراتيجي الإيراني: قاآني… العائد من الموت!
بقدر ما أصاب دوائر قوّات حرس الثورة القلق إزاء الشخصية التالية التي ستتولّى قيادة قوّة القدس بعد الإعلان الرسمي عن اغتيال الجنرال قاسم سليماني بالقرب من مطار العاصمة العراقية بغداد فجر الثاني من كانون الثاني 2020، فقد شعرت هذه القيادة والمعنيون بخليفة سليماني بكثير من الارتياح عندما أعلن المرشد الأعلى اختيار الجنرال إسماعيل قاآني ليكون على رأس قوّة القدس التي تعتبر الركن الخامس في الأركان المشتركة لقوّات حرس الثورة إلى جانب القوّات البرّية والبحرية والجوّية والصاروخية، إذ لن يحدث هذا الاختيار خللاً في عمل هذه القوّة المسؤولة عن العمليات الخارجية الإيرانية على المستوى العالمي وتقود المشروع الاستراتيجي في منطقة غرب آسيا.
سادت حالة من الترقّب لدى المستويات السياسية والإعلامية والأمنية وهي تتابع التسريبات عن إمكانية مقتل الجنرال إسماعيل قاآني في الغارة الإسرائيلية التي استهدفت منطقة المريجة في الضاحية الجنوبية لبيروت، التي من المفترض أنّ هدفها كان قتل رئيس المجلس التنفيذي في الحزب والمرشّح الأقوى والأبرز السيّد هاشم صفي الدين لخلافة الأمين العامّ السيّد حسن نصرالله.
على الرغم من كلّ التأكيدات التي صدرت عن جهات معارضة بشدّة للدور الإيراني وما يقوم به الحزب من نشاط عسكري بعناوين مختلفة راوحت بين إسناد غزة والدفاع عن الشعب اللبناني وجنوبه، حول وجود قاآني إلى جانب صفي الدين في الموقع المستهدف، وأنّ مؤشّرات قتلهما كبيرة حسب المواقف التي تابعت الخبر ورأت أنّ هذا الاغتيال سيشكّل ضربة قاسية مزدوجة للمشروع الإيراني في لبنان والإقليم، فإنّ الأمر في طهران لم يكن يختلف كثيراً في ترقّبه لصحّة هذا الخبر من عدمه، بخاصة أنّ السلطات الإيرانية المعنيّة بهذا الحدث التزمت حالة من الصمت المطبق واكتفت بالقول إنّ “قاآني في صحّة تامّة ويمارس مهمّاته على رأس عمله”، حسب قول مساعده الأوّل في قوّة القدس وسفير إيران السابق في العراق إيرج مسجدي.
القيادة الإيرانيّة تموّه
نفت القيادة الإيرانية بشكل قاطع وجود قاآني في الموقع الذي استهدفته الغارة الإسرائيلية في منطقة المريجة في الضاحية. إلا أنّها في المقابل لم تنف وجوده في لبنان.
ما أكّدته معلومات خاصة أفادت بأنّ قاآني جاء إلى بيروت بعد استهداف المريجة، وأجرى سلسلة من اللقاءات السياسية والعسكرية والأمنية مع قيادات الحزب. وشارك بشكل كبير ومؤثّر في إعادة هيكلة الجسم العسكري والأمني الذي أصيب بخسائر وضربات قاسية بعد اغتيال المعاون العسكري فؤاد شكر ومن بعده قائد قوّة الرضوان إبراهيم عقيل وفريقه كاملاً، ووقوع مجزرة أجهزة الاتّصال “البيجر واللاسلكي”.
كان وجود قاآني في بيروت والضاحية ضرورياً، بخاصة بعد مقتل الجنرال عباس نيلفروشان الذي كان يمثّل العمود الفقري لجهاز مستشاري حرس الثورة الإسلامية إلى جانب الحزب على مدى العقود الثلاثة الماضية، وأيضاً العقل المحرّك للفكر الاستراتيجي في إيران. وتضيف هذه المعلومات أنّ اختفاء قاآني خلال تلك المدّة والتعتيم الذي مارسته القيادة الإيرانية عن مكان وجوده يعتبران من أشدّ وأعقد عمليات الخداع الاستراتيجي التي مارستها طهران والحزب في مواجهة أجهزة الاستخبارات الدولية، وخاصة الأميركية والإسرائيلية.
5 أيّام حاسمة
تؤكّد المعلومات أنّ الأيام الخمسة التي غاب فيها قاآني عن المشهد، كانت كافية لإعادة بناء جهاز القيادة والسيطرة في الجسم العسكري للحزب، ووضع الخطط مع القادة الجدد ومسار التصعيد القتالي الذي سيعتمده الحزب في المرحلة المقبلة في قتاله ضدّ الجيش الإسرائيلي.
تكتسب زيارة قاآني التي غلّفت برداء الغموض أهمّية كبيرة في ظلّ التصعيد الذي شهدته التطوّرات العسكرية في الحرب الدائرة، خاصة في الجانب المتعلّق بتداعيات ما بعد الضربة الصاروخية التي قامت بها طهران داخل العمق الإسرائيلي، وما أسفر عنها من مواقف إسرائيلية أعلنت أنّ إسرائيل ستعمد إلى ردّ قاس وكبير في العمق الإيراني قد يستهدف مستويات مختلفة من المنشآت العسكرية والأمنية والاقتصادية، وقد تتوسّع لتطال منشآت نووية ونفطية.
ممّا لا شكّ فيه أنّ جانباً من الخطط التي أشرف قاآني على وضعها مع القيادة العسكرية والميدانية للحزب يأخذ بعين الاعتبار أن تتوسّع دائرة المواجهة بين طهران وتل أبيب ومعها الولايات المتحدة الأميركية، خاصة أنّ القيادة الإيرانية فقدت ما بقي لديها من ثقة بإمكانية أن تلعب واشنطن دوراً إيجابياً يساعد على وقف التصعيد، في ظلّ الضوء الأخضر الذي منحه البيت الأبيض لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في استهداف إيران وأيضاً في استمرار العملية العسكرية ضدّ لبنان والحزب.
من المحتمل أن تكون هذه الخطط العسكرية تأخذ بعين الاعتبار استمرار الحرب لمدّة زمنية طويلة، وبالتالي لا بدّ من إدارة المعركة بكثير من الدقّة، وأن يبقى التصعيد المدروس على الجبهة اللبنانية تحت سقف مضبوط وفي حدود الخطّة المرسومة للتصعيد المتدرّج بالمستوى والوقت، مع العمل على رفع مستوى الاستعداد لمواجهة موجة تصعيدية مفتوحة، خاصة إذا ما نفّذ الإسرائيلي تهديده بتوجيه ضربة كبيرة للعمق الإيراني، وإمكانية أن تشهد تلك المرحلة تدخّلاً أميركياً، خاصة بعد الرسالة التي وجّهتها واشنطن عندما أعلنت استخدام القاذفة الاستراتيجية الشبحية B2 في الضربة الأخيرة التي وجّهتها للحوثيين في صنعاء وصعدة. عندئذٍ ستدخل الخطّة المتقدّمة حيّز التنفيذ وستكون قيادة الميدان في الحزب أمام خيار فتح ترسانته الصاروخية على مصراعيها.
عندما أعلن المرشد الأعلى للنظام الإيراني تعيين إسماعيل قاآني على رأس قوّة القدس في اليوم التالي لاغتيال قاسم سليماني، لم يظهر قاآني في المشهد الإعلامي والعلن كقائد جديد لهذه القوّة، واستمرّ هذا الغياب إلى ما بعد الثامن والعشرين من كانون الثاني 2020 (28/1/2020)، وهي المدّة التي سعى فيها إلى إجراء عملية تسليم وتسلّم للملفّ الذي كان يشرف عليه في قوة القدس من موقع مساعد نائب قاسم سليماني منذ 1998، أي الملفّ الأفغاني، خاصة ما يتعلّق بوضع اللمسات الأخيرة على اغتيال مسؤول ملفّ إيران في الاستخبارات المركزية الأميركية (السي آي إي) الجنرال مايكل دي أندريا الملقّب باسم “آية الله مايك” أو “أمير الظلام” والمسؤول عن تتبّع قاسم سليماني والتخطيط لاغتياله، بالإضافة إلى إنشاء خلايا أمنيّة داخل العمق الإيراني.
حسن فحص- اساس