مسيحيو لبنان… الفرس قادمون أين العرب: احزموا أمركم وافعلوا شيئاً!

قبل الحرب اللبنانية، وقبلها ثورة العام ١٩٥٨، كان المسلمون اللبنانيون يأخذون على المسيحيين اعتبارهم لبنان بلداً “ذا وجه عربي” ويصرون على التعامل معه كبلد عربي كامل المواصفات وجزء من عالم واسع بكل همومه وملفاته وقضاياه وربما خياراته.

والواقع أن هذا الأمر حُسم لهم بعد الحرب وبات مكرّساً في الدستور والنصوص والنفوس والممارسة، لكن المفارقة أن المسلمين العرب الذين كانوا، واستناداً الى تجارب عدة، أكثر التصاقاً بلبنان يوم كان غربي الهوى ومتنفساً ومجتمعاً حضارياً ومتطوراً ومتحرراً ومنفتحاً ومميزاً في جماله وثقافته وتنوعه وتاريخه وتقاليده، باتوا أكثر ابتعاداً عن لبنان الذي كاد يتحول الى نسخة عن الجمهورية الاسلامية في ايران، بعدما تركوه تدريجاً اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري ثم في شكل شبه كامل بعد حرب تموز العام ٢٠٠٦ وفي شكل كامل بعد غزوة بيروت في العاشر من أيار العام ٢٠٠٨، اضافة الى ممارسة طلاق واسع مع تيار “المستقبل”، مكتفين بدور شكلي لا يتعدى ما تقتضيه الديبلوماسيات الناعمة في بعض المناسبات والعلاقات الفردية مع بعض الحيثيات السياسية أو الاجتماعية وسواها.

والمفارقة أيضاً، أن معظم الشركاء المسلمين بات بعد اتفاق الطائف، يمارس دور “الغالب والمغلوب” بقفازات بيض، وقدم منطق القوة على منطق الشراكة، ولجأ الى الأعراف بدلاً من الدستور، وهيمن على المواقع السيادية المسيحية الواحدة بعد الأخرى وصولاً الى الرئاسة الأولى التي لا يمكن أن تمر الا بتوقيع ممن يملك السلاح وفائض القوة أي “حزب الله” ومعه حركة “أمل” وبقايا “الحركة الوطنية” في لبنان.

وأكثر من ذلك، شعر المسيحيون الذين كانوا يملكون أعتى ميليشيا مسلحة ومتمرسة في لبنان والشرق، بأنهم سلموا سلاحهم، ليس لفرنسا ولا أميركا ولا حلف الأطلسي، بل للعرب من خلال اتفاق الطائف الذي ساهم حراسه السوريون وحلفاؤهم المسلمون في تجريد المسيحيين السياديين من زخمهم وتمردهم ودورهم لمصلحة مسيحيين آخرين يشبهون في الممارسة المرتزقة السوريين في الجيش التركي أو الشيشانيين في الجيش الروسي والمرتزقة الشيعة في “الحرس الثوري” الايراني.

وأكثر من ذلك أيضاً، اندمج المسيحيون في النسيج اللبناني الجديد بعد الحرب وباتوا أكثر بعداً من الانغلاق ورفض الآخر، في حين بات الغلاة من الشركاء المسلمين أكثر تعصباً وأكثر ميلاً الى الأسلمة ورفض الآخر منه الى العلمانية أو الشراكة المتوازنة، لا سيما منهم شيعة “حزب الله” وسنة الأصوليات الاسلامية.

لكن أكثر ما أقلق المسيحيين، ليس هذا التحول في الممارسة والذهنيات التي بقيت ضمن المعقول على المستوى الرسمي وضمن العلاقات الأدبية والأخلاقية على المستوى الانساني، بل تحول قسم كبير من المسلمين، وتحديداً “البيئة الايرانية”، من فصيل اسلامي متطرف، الى دويلة لا تريد ابتلاع لبنان بكل مقوماته وحسب، بل تحويله الى جمهورية اسلامية كاملة المواصفات من رأسها حتى قدميها.

وليس سراً أن السنة اللبنانيين الذين فقدوا عرابهم الأقوى، أي رفيق الحريري، ثم نجله سعد الحريري، فقدوا أي اتصال أو تواصل عضوي مع العالم السني الواسع وتحديداً السعودية، وآثروا النأي بالنفس عن أي مواجهة مع الشيعة لا سيما بعد “غزوة السابع من أيار”، وأن الدروز آثروا خيار المناورة التي لا تحولهم لا الى شركاء ولا الى أعداء، وأن المسيحيين آثروا اللجوء الى دولة فاشلة لا تستطيع لا حماية شعبها ولا حتى حماية نفسها.

في الحصيلة، لبنان الآن يشهد واحدة من أسوأ محطاته الوجودية إن لم تكن الأسوأ على الأطلاق ليس نتيجة حرب طالما اعتادها واعتاد كوارثها على مدى خمسين عاماً، بل نتيجة هيمنة مطلقة يمارسها الايرانيون علناً وفي الهواء الطلق بعيداً من أي دور عربي يتعدى شحنات من الخبز والأدوية والضمادات.

والسؤال ماذا ينتظر العرب جميعاً، وماذا تنتظر السعودية تحديداً كي يحط مسؤولوها في مطار بيروت ويقولوا للسنة أولاً وللمسيحيين ثانياً ولكل اللبنانيين ثالثاً، لقد قاتلنا مئة سنة كي نجعل لبنان عربياً ولن نرضى الا أن يبقى عربياً، وكي يقولوا للايرانيين، هذه أرض عربية لا يصونها الا العرب؟

لقد اندمج المسيحيون في العالم العربي ربما أكثر من كثير من بعض العرب، لكنهم لن يندمجوا في العالم الفارسي لا ترغيباً ولا ترهيباً حتى لو أدى بهم الأمر الى صدام مباشر، وهم ينتظرون من غلاة العروبة موقفاً صارماً يضع حداً لحضارة ليست حضارة عربية وقومية ليست قومية عربية، وثورة ليست ثورة عربية، وحرباً ليست حرباً عربية، وهم العالمون تاريخياً أن نيران بيروت ليست محدودة في المكان والزمان بل تحمل من المقومات ما يجعلها تحرق أصابع العرب جميعاً وحتى أصابع حارقيها.

ان وقوع لبنان في قبضة ولاية الفقيه سيكون حكماً مقدمة لاقتحامات أخرى في أي دولة عربية تحول فيها الشيعة والأصوليون سواء عن اقتناع أو ضلال الى وقود للايرانيين أو “الإخوان المسلمين”، وسيدفع العرب الى واحد من ثلاثة خيارات: اما العودة الى التجربة اليمنية الموجعة، واما الارتهان تماماً للعم سام في واشنطن طلباً للحماية، واما التطبيع مع اسرائيل من باب “مرغم أخاك لا بطل”.

وأكثر من ذلك، لا بد من سؤال بديهي، كيف يرضى العرب، أن تعمل اسرائيل على تحرير لبنان وغزة من الهيمنة الايرانية، فيما يكتفي العرب بتقديم المساعدات موصولة بالوعد الدائم: التدمير على سوانا والتعمير علينا، أو على الأقل: القتال عليكم والمال علينا؟

المسلمون اللبنانيون يسألون العرب أين انتم؟ وماذا يمنعكم من حماية عروبة بذلنا أرواحنا كي نكرّسها في “لبنان الفينيقي”؟ والمسيحيون يسألون أين أنتم يا عرب ولماذا لا تمنعون عن عروبتنا الجديدة انتماء آخر هو الانتماء الى ولاية الفقيه؟

ثمة اقتناع متراكم في لبنان يقول لبعض العرب، ان السلام الذي أبرمتموه مع اسرائيل كان في جزء كبير منه على حساب حروب دامية خاضها اللبنانيون ودفعوا أثمانها، وان الازدهار الذي يشهده بعض العرب جاء في جزء أساسي منه يوم دمرنا بلدنا من أجل فلسطين أولاً ومن أجل تيار من هنا وتيار من هناك، سواء عن تهور أو غباء أو عمالة أو ايمان، وقد حان الوقت لكي تقرروا بأسرع وقت ممكن ماذا تريدون من لبنان؟ هل تريدونه عربياً؟

إذا كان الأمر كذلك احزموا أمركم وافعلوا شيئاً، واذا أردتموه فارسياً، فلا تتعاملوا معنا كعرب ولا تلومن شعبنا لو قرر إحراق بلاده على رؤوس الجميع أو لو قرر أن يكون أي شيء الا عربياً.

نحن اليوم لم نعد نسأل “أين الامام يا عرب” بعدما بتنا نعرف أين هو ومن أخفاه، بل نسألكم أين لبنان الذي نجهل من يريد تبنيه عربياً ومن يريد تبنيه فارسياً، ومن منكم لا يريد “كربلاء جديدة” في هذا الشرق أو”حطين جديدة” في هذا العالم.

انطوني جعجع- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة