سقوط الأوهام و”بقايا” فائض القوّة المشحون بالتعبئة الدينية… وغرور إنجازات إسرائيل
بناء مستوطنات في الجنوب اللبناني
بدخول حرب إسرائيل على غزة سنتها الثانية اليوم، انقلبت المعادلة التي وضعت لبنان منذ عقود في مهبّ الريح. وهي تستمرّ في تدمير مقوّمات الدولة فيه وتخرّب علاقات مكوّناته مع محيطه العربي. وقائع الصراع تشي بأنّ المنطقة تحتاج إلى سنة أخرى على الأقلّ من التقلّبات والمآسي قبل هدوء “الطوفان”.
كان البلد عالقاً بين غرور فائض القوّة الإيراني المشحون بالتعبئة الدينية، وبين التربّص الإسرائيلي لطهران ووكلائها، وبين اللامبالاة الأميركية. وبات الآن غارقاً بين فائض وحشية التطرّف الإسرائيلي وإنجازاته العسكرية المدعومة بالتفوّق الأميركي، وبين حالة الإنكار والمكابرة الإيرانيَّين.
المعادلتان تعتمدان البلد الصغير ساحة ومنطلقاً لتغيير موازين الإقليم، بالحديد والنار، وتستفيدان من قابلية تناقضاته الداخلية للتدخّلات.
لا حاجة إلى تعداد وقائع الانتشاء الإيراني خلال العقدين الماضيين بالقدرة على تقويض مقوّمات الدولة المركزية عبر الميليشيات الموالية لها في أكثر من بلد عربي.
“تخصيب” طهران لهالة القوّة
اختراق طهران النسيج السياسي والاجتماعي في أكثر من دولة عربية حوّلها دولة محورية. وهو ما أوهمها أنّ بإمكانها تغيير النظام الإقليمي والهيمنة عليه. استند مشروعها إلى حاجة قيادتها إلى ضمان أمنها بالتوسّع خارج حدودها بمواجهة هاجس تكرار ما كابدته جرّاء حرب صدام حسين ضدّها. قرّرت أن تحارب خارج حدودها.
أيقظت هذه الحاجة الطموحات الإمبراطورية الفارسية القديمة في التاريخ، والجغرافيا، معطوفة على ازدراء حضاري لجيرانها العرب. تحت شعار “تصدير الثورة الإسلامية” حملت لواء القضية الأمّ، فلسطين، لتشريع تمدّدها خارج حدودها. شملت “عدّة الشغل” الإيرانية العقيدة الحسينية وتخصيص إمكانات ماليّة ضخمة على حساب متطلّبات شعبها. وهذا ما رسّخ أنماطاً اجتماعية وطقوساً لدى قسم من الشيعة العرب. فقد عزّز القناعة بـ”النصر الإلهي” الذي لا يخضع للنقاش والتشكيك حول حقيقة ميزان القوى ما دام يحقّق قدراً من القوّة والتأثير.
مكّن البناء الأيديولوجي للوكلاء من تغطية التناقض بين براغماتية الإقدام على الصفقات مع “الشيطان الأكبر”، وغطاء شعارات “الموت لإسرائيل” و”نصرة المظلومين” الديماغوجية. هذا ما سُمِّي “الدهاء الإيراني” الذي أُعجِب به جمهور الممانعة وجيش المستفيدين، وحتى بعض الخصوم. فقد جرى تخصيب هالة القوّة بالطموح إلى امتلاك التكنولوجيا النووية. ورفدت تلك الهالةَ الحاجةُ الأميركية إلى استخدام البعبع الإيراني، بموازاة قاعدة النفوذ الأصلية إسرائيل، لمحاولة تطويع دول المنطقة.
سقوط الأوهام و”بقايا” فائض القوّة
سقطت الأوهام الماورائية نتيجة تراكم الضربات الإسرائيلية المدعومة أميركياً. الاغتيالات داخل إيران قبل 7 أكتوبر وبعده، وتفجيرات البيجر واللاسلكي ضدّ عناصر الحزب في لبنان وسوريا، في 17 و18 أيلول الماضي، واغتيال قادة الصفّ الأول في الحزب، أنتجت نظرية “التراجع التكتيكي” وأوضحت وظيفة الصفة التفاوضية والوسطية للرئيس الجديد مسعود بزشكيان.
إلا أنّ اغتيال الأمين العامّ للحزب كان ذروة تشذيب التمدّد الإيراني على يد “الغدّة السرطانية” الإسرائيلية. جرى ذلك باعتماد الدولة العميقة في أميركا نهج التخدير الذي مارسته طهران معها، عبر مواصلتها خطوط التفاوض الخلفية مع نظام الملالي. ومع ذلك لم يغادر هؤلاء وهْم فائض القوّة على الرغم من الحصيلة الصادمة للمواجهة التي تديرها واشنطن بالآلة العسكرية الإسرائيلية.
الصدمة والتخبّط في لبنان
في الميدان اللبناني تنتج حالة الإنكار تخبّطاً وتناقضاً قلّ نظيرهما:
– وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ينهي زيارته للبنان باشتراط موافقة الحزب على مطلب وقف النار، مع إصراره على مواصلة دعم المقاومة. فيما الأخير يسرّب تفويضه رئيس البرلمان نبيه بري التفاوض على ذلك، مع تخلٍّ ضمني غير معلن عن شرط الربط بين وقف حرب الإسناد ووقف الحرب على غزة.
– في دمشق يعلن عراقجي أنّ الأولوية لوقف النار، مشيراً إلى سعي دول عدّة إلى ذلك، من دون اشتراط موافقة الحزب.
– برّي أبدى استعداداً ضمنيّاً لانتخاب رئيس جديد للجمهورية حتى قبل وقف النار لعلّ ذلك يساعد في وقف الكارثة التي أوقعت إسرائيل لبنان فيها. فالتسريبات أفادت بأنّ واشنطن باتت تعتبر أولوية انتخاب الرئيس تتقدّم على وقف النار. وفي المقابل يعود قادة الحزب إلى الإعلان أنّ الأولوية لوقف النار.
– المرشد علي خامنئي دعا في تأبين نصرالله إلى القتال والمقاومة، معتبراً أنّه “لا يحقّ لأحد الاعتراض على الحزب لدعمه غزة. وهذا واجبهم”. من مقتضيات الإنكار أنّه شمل “الشعب اللبناني” في حقّ دعم غزة، فيما بلغ عدد النازحين اللبنانيين مليون جرّاء الضربات الإسرائيلية.
– بينما كانت طهران تفتح خطوط التفاوض مع واشنطن للتخفيف من وطأة الردّ الإسرائيلي على ضربة إيران قبل أسبوع، كان من مظاهر الاعتداد بالقوّة تقليد المرشد وسام “الفتح” لقائد القوّة “الجوفضائية” العميد أمير علي حاجي زاده.
مفاعيل فائض الغرور الإسرائيليّ
في المقلب الآخر من الحرب التي تشنّها إسرائيل، يبدو أنّ فائض الغرور عند بنيامين نتنياهو تحديداً، بعد الإنجازات التي حقّقها، سيتحكّم بمعاناة لبنان. من غزة إلى الضفة والجبهة الشمالية التي تشمل لبنان وسوريا، وضع نتنياهو وحلفاؤه في اليمين المتطرّف أهدافاً يحتاج تحقيقها إلى الكثير من الوقت.
ضيّق التأييد الغربي لاستعادة قوّة الردع الإسرائيلي بعد 7 أكتوبر مساحة التمايز بين السياسة الأميركية وأهداف الدولة العبرية في مواجهة النفوذ الإيراني. ورفع سحق غزة منسوب الاعتداد بتفوّق “شعب الله المختار”، وصولاً إلى تحويل مساحات واسعة من الجنوب إلى ركام بشكل غير مسبوق. ومثل غزّة يجري تحويل مناطق إلى أرض بلا شعب، لتكون حزاماً أمنيّاً لمدّة تبقى نهايتها مجهولة.
الحصار على لبنان وظيفته قطع طريق الإمداد على الحزب بين لبنان وسوريا. هذا بالإضافة إلى قصف مستودعاته ومراكزه وقوات إيران، واستباق محاولاتها فتح جبهة الجولان.
الحزام الأمنيّ من الجنوب إلى الحدود مع سوريا؟
بل هناك حديث عن امتداد الحزام الأمني حتى مثلّث المناطق الحدودية السورية اللبنانية الفلسطينية. والأهداف مطّاطة بين أمن المستوطنين وبين طموح رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى “تغيير الشرق الأوسط”، عبر الحملة العسكرية في لبنان. فساحة البلد الصغير كانت منطلقاً لتوسيع الدولة العبرية أحلامها بالسيطرة وإنهاء القضية الفلسطينية. هذا ما فعله أرييل شارون عام 1982 حين تخطّى وعده باحتلال الجنوب حتى حدود نهر الليطاني، فإذا به يدخل بيروت. وهو ما أطلق بعدها مرحلة “العصر الإسرائيلي”، إذ سعت تل أبيب إلى حكم لبنان وتقزيم سوريا.
تفيد استطلاعات الرأي بأنّ نسبة الإسرائيليين المؤيّدين للحرب على لبنان لضمان أمن المستوطنات الشمالية أعلى بكثير من تلك التي تؤيّد مواصلة حرب غزة.
أهداف الحرب وفق سموتريتش
أوّل من أمس حدّد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أهدافاً لنهاية الحرب التي تخوضها تل أبيب على أكثر من جبهة قائلاً إنّه لا يمكن إنهاؤها إلّا عندما:
– نقضي على حماس في غزة ولا تكون لديها القدرة على إعادة تأهيل نفسها.
– عندما نتمكّن من تجديد الاستيطان في قطاع غزة وضمان وجود يهودي دائم ومستقرّ.
– عندما ندفع الحزب اللبناني إلى ما وراء نهر الليطاني.
– وعندما نغيّر النظام في إيران.
ثمّة من يتحدّث عمّا هو أبعد. فبعض مواقع التواصل ينشر فيديوهات عن منظّمات صهيونية تطمح إلى بناء مستوطنات في الجنوب اللبناني.
وليد شقير- اساس