ماذا بعد استشهاد نصر الله: «مدرسة أبو هادي» لهم بالمرصاد؟
«لقد وعدتكم بالنصر دائماً، وها أنا أعدكم بالنصر مجدّداً»!
هذا هو السؤال الأكبر اليوم. هو كذلك بسبب مهابة وضخامة حجم الفقيد الكبير الذي كان له من شخصيته ومن إنجازاته ما جعله حاضراً، بقوة، في تفعيل دور حزبه في المشهد السياسي اللبناني، وكذلك في مشهد الصراع الدائر في المنطقة وعليها. نذكر دوره المؤثر (والمستأثر أحياناً) في إنجاز تحرير عام 2000 شبه الكامل. آنذاك، تمّ مجدداً، دحر جيش الاحتلال الصهيوني وطرده من لبنان، ذليلاً ومهزوماً. نذكر أيضاً دوره في سوريا، داعماً للسلطة فيها، ضد الجماعات «التكفيرية» المشبوهة (التي كانت قد باشرت نشاطاً إرهابياً في لبنان أيضاً)، وضدّ تدخل أجنبي متعدّد المصادر والدول: أميركي وإسرائيلي وتركي وخليجي… نذكر دوره في اليمن وبصماته هناك ذات الطابع الكفاحي و»الجهادي» والاستقلالي، ما قاد إلى أن ينخرط اليمن (المرهق بالفقر والصراعات والتدخلات الخارجية)، بقوة وإصرار، في الصراع الدائر في المنطقة: انتصاراً لمقاومة شعب فلسطين في مواجهة العدوان الصهيوني والتآمر الأميركي. أسهم دعم «حزب الله» لـ»أنصار الله» في فرض الانسحاب على القوات السعودية وشركائها، بعدما تكبدت خسائر فادحة وعجزت عن تحقيق أيّ هدف من أهداف تدخلها باسم «عاصفة الحزم» في 25 آذار عام 2015 .
إلى ذلك، أدّى «حزب الله» دوراً موثراً، أيضاً، في العراق وسواه، بشكل مباشر أو غير مباشر، ما أضفى على مساهماته دوراً تحررياً عالمياً. تُرجم ذلك في حقول التحالفات والعلاقات والتنظيم والتعبئة والإعلام… وكانت صورة «السيّد»، رغم التباينات الإيديولوجية والسياسية، تشقّ طريقها بقوة نحو الرمزية العالمية، فضلاً عن بروزه كقطب مميّز وجاذب في محور «الممانعة» والمقاومة والتحرير.
اتّصفت شخصية «السيد» بالمرونة في مقاربة مسائل التباين والخلافات الجزئية، وبالصلابة في ما يتصل بالموقف من قضايا الصراع الأساسية في لبنان والمنطقة والعالم. ركَّز دائماً على الأولويات. بذل في هذا الصدد جهوداً جبارة، وأجاز تقديم تنازلات، على طريقة مرشده الأعلى الإمام الخميني، الذي ارتضى أن «يتجرّع السمّ»: مقدّماً الأهم على المهم في الحرب العراقية – الإيرانية.
تبلورت شخصية السيد نصر الله ونضجت في تجارب، غنية وواسعة، من حيث الأماكن والظروف والشروط. في مجرى ذلك، قاوم إغراءات ونزعات السلطة والتسلّط. ارتضى من المحصّلات والنتائج ما يرتبط بهدفه الأساسي، وهو الجهاد ضدّ العدوّ وداعميه الذين صنّفوه وحزبه «إرهابياً»، وخصوصاً بسبب دوره في مقاومة العدو الصهيوني في لبنان والمنطقة. وتفاعلاً مع عملية «طوفان الأقصى» البطولية، كانت مأثرته الكبرى ومحطته الأخيرة: إعلانه الانخراط في مباشرة «حرب الإسناد» دعماً للمقاومة الباسلة وللشعب الفلسطيني في غزة، ضد «حرب الإبادة» والتهجير البربرية الصهيونية التي تتواصل فصولها منذ سنة، بأبشع الوسائل وأكثرها همجية: برعاية ومشاركة الغرب الأطلسي وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية.
المعركة التي أطلقها «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر قبل سنة، ظهّرت جانباً بالغ الأهمية من شخصية الشهيد الكبير. جُرأتُه في فتح معركة «إسناد» فورية ضدّ العدوّ دشّنت مرحلة جديدة من الفرز العربي بين أتباع واشنطن والمعترضين على سياساتها. لقد أعطت مشاركة «حزب الله» في إسناد مقاومة وشعب غزة والشعب الفلسطيني عموماً، معنى نبيلاً للكفاح القومي التحرري. وهي بزخم المشاركة اليمنية المصمّمة والجريئة، تحوّلت إلى عامل مؤثّر في مسار المعركة، رغم الدعم الأميركي والغربي الهائل، ورغم صعوبة المعركة وأكلافها على كل صعيد. لم يكن بمقدور قائد آخر أن يفعل ما فعله «السيّد». إنها فرادته الواثقة والمحبّبة والكاريزماتية، وصدقه الذي أصبح مضرب الأمثال، هما ما جعلاه رمزاً للوفاء وللمصداقية وللتصميم.
كان غيابه بالصورة التي حصلت يعادل الفجيعة بأقصى مظاهرها وانعكاساتها. هلّل القتَلة لإنجازهم! رئيس أميركا ونائبته رحّبا لأن غيابه «يبلسم جراح ضحاياه». وزير خارجية أميركا الذي حرص على التأكيد أنه «يهودي» قبل أن يكون وزير خارجية أعتى وأخطر وأسوأ إمبراطورية في العالم، صرَّح بعد الاغتيال: «المنطقة والعالم أصبحا أكثر أمناً بموت نصر الله»! هؤلاء وأمثالهم كشفوا، من حيث لا يشاؤون، عن مدى تأثير الرجل في الصراع الضاري ضد مخططاتهم التآمرية الإجرامية. كشفوا أيضاً البعد التحرري العالمي لمسيرته وكفاحه كواحد من رموز الكبار: هوشي مينه، فيدال كاسترو، أرنستو تشي غيفارا ونلسن مانديلا…
بعضهم، ومن أجل بعث اليأس في صفوف مريديه وإخوانه وحلفائه، بالغ في حجم «إنجاز» إسرائيل، ومعها واشنطن، في اغتياله: أملاً في تيئيس حزبه ومقاومته وحلفائه. لكن «مدرسة أبو هادي» كانت لهم بالمرصاد. من قرى العديسة ويارون ومارون الراس… جاء الردّ: إفشالاً لمحاولة العدوّ وداعميه والمتواطئين، من كل نوع وصنف، استغلال غيابه لهزيمة قواته وتوهين شعبه، وإسقاط رايته وقضيّته: وكأنّه من عليائه يكرّر عبارته الشهيرة: «لقد وعدتكم بالنصر دائماً، وها أنا أعدكم بالنصر مجدّداً»!
سعد الله مزرعاني- الاخبار