ما بعد نصر الله ما قبل البشير:“التسليم بنصف هزيمة أفضل من هزيمة كاملة!
فائض قوة في ترسانات تحت الأرض ليست على قدر التحديات فوق الأرض؟
لماذا بدا انتخاب رئيس توافقي في لبنان مستحيلاً قبل “الثامن من أكتوبر” يوم انطلاق “حرب الاسناد”؟ ولماذا أصبح ممكناً الى حد الالحاح بعد “السابع والعشرين من أيلول” يوم اغتيال حسن نصر الله في الضاحية الجنوبية؟
ولماذا كان اسم المرشح سليمان فرنجية من “المقدسات” يوم كان محور الممانعة على سلاحه متحدياً ومبشراً بالنصر؟ ولماذا سُحب من التداول من دون مقدمات يوم صار احتمال الاخفاق متقدماً على احتمال الانتصار؟
تطوران، قلبا ملف الرئاسة رأساً على عقب، الأول غياب نصر الله الذي كان الناخب الأكثر تحدياً وعناداً والأكثر تمسكاً بترشيح فرنجية كخيار نهائي لا يقبل أي جدل أو مساومة أو تراجع، تماماً كما فعل عندما تمسك بالجنرال ميشال عون مرشحاً وحيداً، والثاني اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية التي لا بد أن تتأثر بنتائج الحرب الدائرة في لبنان بين اسرائيل و”حزب الله”، وهي نتائج لا تبدو مبشرة أو واعدة في حسابات ايران وأذرعها، تماماً كما كانت نتائج الغزو الاسرائيلي في العام ١٩٨٢.
هذا الواقع لم يكن محل نكران في أوساط الممانعين الذين يهمسون في كواليسهم ما معناه: “دعونا نقبل برئيس توافقي، أي رئيس توافقي، تجنباً لوصول رئيس متشدد تختاره المعارضة مدعومة بأميركا والغرب ومعظم الدول العربية”، مؤكدين أن “التسليم بنصف هزيمة يبقى أفضل من هزيمة كاملة تشبه تلك التي تمثلت في انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية”.
هذا الانطباع برز في مواقف الرئيس نبيه بري الذي كُّلف في ما يبدو إخراج عملية الوصول الى مثل هذا الرئيس بأي طريقة، في مقابل جوائز ترضية للمعارضين، أبرزها فصل ملف لبنان عن ملف غزة، ووضع الجنوب في عهدة الجيش، وهما أمران لا يصبان معنوياً وعملياً في خانة “حزب الله” سواء باتفاق تحت الطاولة أو بتسليم فوق الطاولة، لأن ذلك يعني حكماً سحب مبررات سلاحه وانتزاع مخالبه.
ويتردد في أوساط عين التينة أن بري الذي عايش أجواء الاجتياح الاسرائيلي في العام ١٩٨٢ وانعكاسه السلبي على مقدرات المنظمات الفلسطينية والحركات اليسارية والوطنية، يشتم وضعاً مماثلاً الى حد ما، ويسعى بأي ثمن الى مخرج رئاسي لا يزيد أولاً في إحباط الشارع الشيعي الذي انتقل بين ليلة وضحاها من موقع القوة المطلقة الى موقع الفوضى المطلقة، ولا ينقل ثانياً المعارضة من موقع القوة غير المتكافئة الى موقع القوة الوازنة.
وكشف مصدر ديبلوماسي أن بري فتح كل قنوات الاتصال مع كل المعنيين بملف الرئاسة، وأبلغ الى المملكة العربية السعودية أنه لن يمشي بأي رئيس لا ترضى عنه الرياض، مراهناً على ما يمكن أن تفعله لتليين المواقف المتشنجة لدى قوى المعارضة التي يرى أنها باتت في وضع أفضل بعد حال الصدمة التي أصابت “حزب الله” من القمة الى القاعدة.
والواقع أن بري يحاول مع الرئيس نجيب ميقاتي ووليد جنبلاط، تحاشي كارثة تشبه كارثة العام ١٩٨٢، أي عندما وقفوا يتفرجون على الدبابات الاسرائيلية وهي تدخل بيروت في مكان، وعلى ياسر عرفات وهو ينسحب مع رجاله من العاصمة اللبنانية في مكان آخر، وذلك من خلال الموافقة على أي شرط أو مخرج يوقف الحرب قبل أن تتطور الأمور الى حد قد يؤدي الى انهيار كامل في صفوف “حزب الله” الذي تلقى في الأمس ضربة قيادية موجعة مع اغتيال هاشم صفي الدين خليفة نصر الله وقريبه، ووقوع القرار اللبناني في قبضة محور أميركي – عربي يحدد مستقبل لبنان بعيداً من صراعات المنطقة وايديولوجياتها المتطرفة.
ونقل عن مصدر قريب من الضاحية الجنوبية، أن البيئة الشيعية تعيش أجواء الهزيمة التي عاشتها البيئة السنية مرة قبل ٤٢ عاماً ومرة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والبيئة المسيحية بعد اغتيال بشير الجميل مرة ومرة بعد تغييب قيادتها قبل الطائف وبعده، مشيراً الى أن ما ينقص هذا المشهد القاتم، ظهور فيليب حبيب آخر حاملاً في جيبه اسم الرئيس العتيد وانتشار “قوات أطلسية” لدعم الجيش اللبناني الذي يملك الآن أثمن فرصة جدية في تاريخه، أي فرصة القول لمن يعنيه الأمر: “الأمر لي”.
وما زاد من مخاوف الثلاثي بري وميقاتي وجنبلاط، اعلان وزير الخارجية الاسرائيلية يسرائيل كاتس أن بلاده لا تعمل لتطبيق القرار ١٧٠١ وحسب، بل كل القرارات الدولية وبينها القرار ١٥٥٩ الذي يدعو الى حل كل الميليشيات اللبنانية المسلحة، وما تردد من قبل أن بلاده تعمل للوصول الى تطبيع أو اتفاق سلام مع لبنان.
وانطلاقاً من هذه المخاوف يمكن الاضاءة على أسباب العجلة في طرح أسماء عدد من المرشحين الموارنة القريبين من أميركا ومحور الاعتدال العربي، ومنهم ناصيف حتي، ونعمة افرام، وصلاح حنين، وجوزيف عون والياس البيسري وجورج خوري، باستثناء فارس بويز المدعوم من بكركي، وهي عجلة تدخل في اطار قرار بطي ملف الرئاسة قبل انتهاء العمليات العسكرية في الجنوب وتبيان الغالب فيها والمغلوب، وقبل انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستأتي حكماً بأحد مناصري اسرائيل سواء كان دونالد ترامب أو كامالا هاريس.
وكشف مصدر ممانع في هذا الاطار أن وجود رئيس توافقي سيكون بالنسبة الينا “محل طمأنينة” سواء خرجنا من الحرب مهزومين أو منتصرين، وأن مراضاة المسيحيين في هذه الفترة بدل استفزازهم، سيكون قراراً حكيماً، معرباً عن اعتقاده أن المسيحيبن وحدهم يستطيعون التوفيق بين العودة الأميركية الى بيروت والشراكة الداخلية المتوازنة في البلاد.
وختم: ان ما فعله حسن نصر الله في “الثامن من أكتوبر” يهدد بالقضاء على كل المكاسب التي حققناها بعد اتفاق الطائف أولاً وبعد حرب تموز ثانياً، مؤكداً أن لبنان يعيش بعد نصر الله ما عاشه قبل بشير، أي زلزال عسكري يقوم على سياسة الاستئصال لا التسويات مع فارق وحيد هذه المرة وهو أن هذا الزلزال يتم من دون غطاء أو دعم داخلي وتحديداً من أي فريق مسيحي.
هذا الواقع الذي يعرفه الساسة الممانعون لا تعرفه القاعدة الشيعية التي تقدم سياسة المكابرة على سياسة المثابرة وتصوّب سلاحها تارة صوب السنة وتارة صوب الموارنة في رد فعل طالما حذر منه نصر الله نفسه لعلمه أن نيران الداخل أشد خطراً من نيران الخارج.
والسؤال: ماذا تنتظر البيئة الشيعية بعد قبل أن تقتنع بأن ما فعلته في مدى الأعوام العشرين الماضية قد جرّدها من الدعم الداخلي والخارجي، وأن ما تواجهه مع الآلة العسكرية الاسرائيلية لم يكن نتيجة طعنة في الظهر بقدر ما كان ثقة زائدة في وفاء الرفاق والعراب الايراني، وفائض قوة في ترسانات تحت الأرض لم تكن على قدر الوعود والتحديات فوق الأرض؟
انطوني جعجع- لبنان الكبير