“اللاجئون أغرقوا البقاع بالصرف الصحي”: توثيق تفشي حالات صحيّة خطيرة!
حتمًا سيكون أمراً بالغ الإثارة لو عمدت السّلطات اللّبنانيّة، بكل فروعها، إلى التوجه شرقًا فعلًا، أي نحو منطقة البقاع، وألا تكتفي بالمداهمات والعمليات الأمنيّة للسكّان (لبنانيين وسوريين)، أو الوقوع في فخّ الشطط والتعامي عن مسؤوليتها في تردي أحوال هؤلاء، في محاولةٍ ربما عبثية، لفرض سيطرتها بعد سنوات طويلة من التقاعس والتهميش.. وأن لا تكتفي بالتكفير عن هذا الخلّل الإنمائيّ، بحلولٍ ترقيعيّة- استعراضيّة وحسب.
إخبار لدى النيابة العامّة البيئيّة
بتاريخ الأمس، الإثنين 22 تموز الجاري، تقدّم النائب شربل مارون، بواسطة وكيله المحامي طوني خليل بإخبارٍ لدى النيابة العامّة البيئية في البقاع، يتعلّق بمخيمات اللاجئين السّوريّين في البقاع الغربيّ. وجاء في الإخبار، “منذ فترة ويشغل النازحون السّوريّون مناطق عدّة في البقاع الغربيّ عبر مخيماتٍ واسعة لا تراعي الشروط البيئيّة والصحّيّة المفروضة قانونًا، ويعمدون في المخيمات إلى رميّ مياه الصرف الصحيّ في مجاري الأنهر عبر قساطل تمّ مدّها لهذه الغاية، ممّا يضر بتلك المياه وبالمياه الجوفية والآبار الّتي أصبحت ملوثّة ولا تصلح حتّى للريّ. وهذا الأمر أدى أيضًا إلى تلويث مياه بحيرة القرعون ونهر الليطاني”.
واعتبر مارون، أن “هذه المخالفات البيئية أدّت إلى تلويث مياه الشفة وانتشار الأمراض، ومنها الجرب والسّرطان الذي أصبح منتشرًا في تلك المناطق بشكل كثيف. كما وأن المزارعين لم يعد في استطاعتهم ري مزروعاتهم بمياه صالحة، ما يهدّد حياة وصحة الإنسان في البقاع خصوصاً وفي لبنان عموماً، ويعرض القطاع الزراعيّ الذي يستفيد منه العدد الأكبر من سكان المنطقة للتوقف، ممّا يؤثر على معيشة المزارعين في تلك المنطقة”.
وأشار إلى أن “بعض تلك المخيمات عمد إلى استحداث حفرٍ صحيّة مكشوفة لا تراعي أي من الشروط البيئيّة، ويتمّ تحويل المياه الآسنة إليها، ما يزيد التلوث البيئيّ وانتشار البكتيريا والجراثيم الّتي تهدد الأمن الغذائيّ والقطاع الزراعيّ وصحّة السكّان والقاطنين في تلك المناطق”.
وتابع “بما أن إنتشار مخيمات النازحين السّوريّين في منطقة البقاع الغربيّ بالشكل الموصوف أعلاه، يشكل خطرًا داهمًا على سلامة وصحة السكان، وعلى الأمن الغذائي، وبما أن ذلك يؤدي أيضًا إلى انتشار الأمراض، ومنها الجرب والسرطان على سبيل المثال، وبما أنه حتى تاريخه لا يوجد أي رادع لهذه المخالفات، وبما أن كل ذلك أدى أيضًا الى تلويث المياه الجوفيّة ومياه بحيرة القرعون ونهر الليطاني وغيرها، وبما أن الاستمرار بهذه المخالفات وعدم قمعها ووضع حدٍّ لها سوف يزيد من سوء الوضع وتفاقمه، تقدّم النائب شربل مارون بواسطة محاميه طوني خليل، بهذا الإخبار طالبين التفضل بإجراء التحقيقات المناسبة والإيعاز لمن يلزم للتحرك فورًا لإتخاذ كافة الإجراءات القانونيّة لإيقاف المخالفات البيئيّة الكارثيّة الّتي يرتكبها المقيمون في مخيمات اللاجئين السّوريّين في البقاع الغربيّ”.
انفلات مياه الصرف الصحيّ وشحّ مياه الشرب
وليس خفيًّا أن مثل هذا الإخبار وفي وقتٍ تصل فيه الحملات الأمنيّة والسّياسيّة ضدّ اللاجئين ذروتها، وتحديدًا في البقاع الذي يحتضن ما يناهز 450- 500 ألف لاجئ وفقًا لإحصاءات المفوضيّة الأخيرة، ما هو إلا محاولة لتجييش الشارع البقاعيّ المتشنج أساسًا من هذه القضية. لكنه ينضوي بالمقابل على بعدٍ آخر (بصرف النظر عن غاياته الملتويّة)، لا يُمكن إهماله، وهو بالفعل تأثير مخيمات اللجوء على أزمة انفلات مياه الصرف الصحيّ في البقاع، وخصوصًا نهر الليطانيّ والأراضي والمحيطة به، على امتداد شرق لبنان حتّى جنوبه. هذه الأزمة الّتي لم تظهر على حين غرّة، بل متأصلة في تاريخ التهميش الرسميّ للبقاع، وزادت بفعل انتشار المخميات العشوائيّة للاجئين- والّتي منعت السّلطات اللّبنانيّة إقامتها بصورةٍ رسميّة ومقوننة، وبالتالي وضعت حظرًا على تنظيمها بصورةٍ مناسبة- لتضع لاحقًا اللوم على مخيمات اللجوء العشوائيّة في تأزم هذا الوضع.
وقد سبق وأفادت الفرق الفنيّة التابعة للمصلحة الوطنيّة لنهر الليطاني عن مشكلة خطيرة خلال الكشوفات التي أجرتها على شبكات ومجاري الصرف الصحيّ في منطقة حوض نهر الليطاني. وتتجلى هذه المشكلة في فيضان مياه الصرف الصحيّ بين المنازل وعلى الطرق، وصولًا إلى مجاري الروافد ونهر الليطاني. وتبين أن شبكات الصرف الصحيّ المتصلة بالمساكن المكتظة باللاجئين السّوريّين تشهد تدفقًا مستمرًا وكميات هائلة من مياه الصرف الصحيّ تتجاوز القدرة الاستيعابية للشبكات الحالية. هذا الأمر أدى إلى تشكل برك طبيعية من مياه الصرف الصحيّ في الأحياء والأراضي المحاذية لمجرى نهر الليطاني وقنوات الريّ. بالإضافة إلى ذلك، يقوم سكان تلك الأحياء بإنشاء تمديدات غير مرخصة للصرف الصحي، مما يسفر عن انسداد المجاري الرئيسية وفيضان “الريغارات” بسبب تخطي قدرة الشبكة على استيعاب الكميات المحولة. كما أن عدم وجود حفر صحية تلبي المعايير الفنية لتلقي ومعالجة مياه الصرف الصحيّ، يزيد من تفاقم المشكلة.
قُدرت كميات المياه المبتذلة الناتجة عن المخيمات الواقعة على ضفاف نهر الليطاني في منطقة الحوض الأعلى بنحو 2,104,655 متر مكعب سنويًا، وذلك من دون معالجة مسبقة. بينما تُقدر كميات المياه المبتذلة الناتجة عن المخيمات الواقعة في حرم قنوات الري في منطقة الحوض الأدنى بنحو 135,000 متر مكعب سنويًا، أيضًا من دون معالجة مسبقة. يأتي هذا استنادًا إلى معدل استهلاك اللاجئ الذي يُقدر بـ84 ليتر يوميًا.
وفي جولةٍ ميدانيّة لها، على امتداد عدد من المخيمات في البقاع الأوسط والشماليّ، ساءلت “المدن” عددًا من المعنيين عن المخيمات (اعتذروا استثنائيًّا عن التصريح بصفتهم الرسميّة)، لمعرفة أسباب تأزم هذه الظاهرة -أي انفلات مياه الصرف الصحيّ- كما جاء في إخبار النائب، وملابساتها.
بدايةً، لم يُنكر القيمون أن للمخيمات أثر في تفاقم ظاهرة انفلات مياه الصرف الصحيّ من مخيّمات اللاجئين نحو السواقي والأراضي الزراعيّة فضلًا عن مجاري الأنهار، وتحديدًا نهر الليطاني، وبرّر هؤلاء الأزمة لثلاث عوامل أساسيّة:
– الأوّل: منع الحكومات اللّبنانيّة إقامة مخيمات شرعيّة، وبالتالي تنظيم عمل المنظمات غير الحكوميّة والأمميّة بالعمل بصورةٍ فعّالة، ووضع يدها على هذه المخيمات بما يضمن تنظيم قواعدها البنيويّة والحيويّة. كما وتقاعسها عن وضع خطة واضحة لمعالجة أزمة الصرف الصحيّ التاريخيّة في البقاع.
– الثاني: شحّ التمويل المتراكم، منذ العام 2020. إذ أن التخفيضات الّتي طالت ميزانيات المنظمات الأمميّة في لبنان وتحديدًا المفوضيّة السّامية لشؤون اللاجئن UNHCR واليونسيف UNICEF، أسهمت طرديًّا في تقليص المشاريع المتعلقة بلوجستيات العيش في المخيمات. كتأمين المياه النظيفة لتجمعات اللاجئين فضلًا عن سحب المياه المبتذلة وتكريرها. وذكرت المصادر أن هذا الأمر تسبب في ضرّرٍ مباشر للاجئين قبل أن يصل لباقي السكّان، خصوصًا في البقاع الشماليّ، حيث يتمّ توثيق تفشي حالات صحيّة خطيرة، بسبب ضعف شبكة تصريف المياه ووصول مياه نظيفة.
– الثالث: أجبرت الحملات الأمنيّة المستمرة على مخيمات اللاجئين، سكّان هذا المخيمات على النزوح من مساكنهم نحو مناطقٍ أخرى، وبالتالي تعثر أي انتظام عام لهذه المخيمات المستحدثة، مما يجعل الأزمة في دائرة مغلقة.
أزمة زراعيّة تاريخيّة؟
هذا ويجدر التذكير -وعلى خلاف ما ادعى الإخبار الذي تقدّم به النائب، زاعمًا أن أزمة المزارعين في البقاع بدأت بسبب موضوع انفلات الصرف الصحيّ في مجاري الأنهار- أنّه وعلى الرغم أن البقاع الشمالي والأوسط يضمّ الحصة الأكبر من الأراضي المزروعة في لبنان، ويطغى على باقي القطاعات في هذه المنطقة، من حيث إمكانية الاستثمار والإنتاج فيه، لا يجتذب هذا القطاع سوى 25 بالمئة تقريبًا -بدوام عمل كامل أو جزئي- من القوى العاملة في محافظة بعلبك الهرمل، على سبيل المثال لا الحصر، ما يؤشر على حجم القصور الإنتاجي، الذي جاء تراكمًا لسنوات من إهمال السّلطة الشأن الزراعي في البقاع الشمالي، والسّياسات الإقصائية لسكان المنطقة وعيشهم، والتخطيط المبتور والتلفيقي، لا البنيوي.
وتعداد المشاكل لا ينتهي. من ضعف البنى التحتية المنكوبة أصلاً، وآليات الزراعة البدائية وغياب المكننة، وصولاً إلى تلف المحاصيل غير المشرعة لنبتة القنب (والتّي منعت آلاف الأسر من تأمين مداخيل لها). يضاف إليها ميزانية وزارة الزراعة المنخفضة مقارنةً بوزارات أخرى، ما أضعف الكوادر المسؤولة، كما البحث العلمي، واحتكار السماسرة والمافيات التجارية للأسمدة والأدوية الزراعية، في ظلّ عدم ضبط الدولة لأسعار المستلزمات الزراعية. ناهيك عن مشاكل التسويق ومنافسة المحاصيل المستوردة خصوصاً السورية منها، وبُعد الأسواق عن المناطق الزراعية، ما أدى لتكبد المزارع البقاعي كلفة نقل محاصيله بأسعار مرتفعة، وغياب المشروع الأخضر الذي أقامته الدولة عن أداء مهامه في المنطقة الزراعية الأكثر إنتاجًا وحجمًا. كذلك تقاعس الجهات المولجة بالرقابة وحماية المستهلك.
وفي ظل عدم مقدرة المزارعين على استخدام الآلات ولا توفير المكننة لصغر الحيازات، ترتفع كلفة الإنتاج، وبالتالي ترتفع أسعار المحاصيل، ما يؤثر سلبًا على القدرة التنافسية. هذه القدرة المهزوزة أصلاً بسبب ضعف التسويق وسواد الاتجاه لاستخدام المبيدات والأسمدة والأدوية الكيميائية فضلاً عن الرّي بمياه ملوّثة. إذ تتسرّب مياه الصرف الصحّي في مدينة بعلبك مثلاً إلى نهر رأس العين الذي يشكّل مصدر الرّي الرئيس للمزارعين في المناطق المحيطة.
بتول يزبك- المدن