“طرابلس عاصمة الثقافة العربية”: شِعر كثير…ولا برامج

يقترب لبنان من طيّ صفحة النصف الأول من 2024، وهي السنة التي تحمل فيها طرابلس لقب “عاصمة للثقافة العربية”، وكانت قادرة أن تضع البلد برمته في صدارة المشهد الثقافي عربيًا وعالميًا، لكن خمسة أشهر مرت من دون فعاليات وأحداث توازي هذا التتويج، في الشكل والمعنى. والسبب العملي بسيط: غياب البرنامج وشح التمويل، وتقاعس الدولة والحكومة -التي يرأسها ابن المدينة نجيب ميقاتي- عن وضع خطة لهذا الحدث قبل عامين على الأقل.

بعد طول انتظار، شهد معرض رشيد كرامي الدولي، اليوم في 24 أيار، حفلة الافتتاح الرسمي، دعي إليها وزراء ثقافة عرب وضيوف رسميون من حول العالم، لإطلاق فعاليات “طرابلس عاصمة للثقافة العربية 2024″، وهو لقب اختارته لها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو). وشارك في الاحتفال المدير العام للألسكو محمد ولد اعمر، رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وزير الثقافة محمد المرتضى ووزراء آخرون، مع عدد من السفراء العرب والنواب والمفتين والمطارنة وحشد لبناني وعربي.

احتفالية هشة؟
وعلى أهمية هذا الاحتفال، لكنه بدا خفيفًا وضعيفًا، وعملية رتق لما بات من الصعب رتقه. إذ غلبت على الاحتفالية الخطابات المشحونة بالشاعرية، والكلمات “الكليشيه”، واسترجاع ماضي المدينة كأسهل طريق للتهرب من المسؤولية في حاضرها وتجاه مستقبلها.

لكن، ماذا عن تتويج طرابلس عاصمة للثقافة العربية؟ ما الخطة؟ ما البرنامج لحدث كبير واستثنائي أُعلن عن موعده قبل نحو تسع سنوات؟ من استقطبت ومن ستستقطب المدينة عربيًا وعالميًا في عام هي “ملكة” الثقافة فيه؟ ما الذي تغير أساسًا في المدينة هذا العام؟ في مشهدها وشوارعها ومعالمها التراثية وخاناتها وأسواقها وفي أنشطتها وفعالياتها؟ في عشرات دور السينما والمسارح المغلقة؟ في مدينة بلا فنادق؟ هل من خطة لحماية ودعم أكثر من 200 موقع أثري في طربلس؟ لا شيء.

وأيضًا، هل يعرف أساسًا جميع سكان طرابلس أن مدينتهم هي عاصمة الثقافة العربية لهذا العام؟ ماذا فعلت المدارس والجامعات مع طلابها وبإشراف وزارة التربية في هذا الإطار؟
هذه الأسئلة وغيرها الكثير، لم يجب عنها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في كلمته، ولا وزير ثقافته محمد المرتضى. علما أن الأخير، أصدر قرارًا في تشرين الأول 2023، وشكل استنادًا إليه 11 لجنة متخصصة تضم أكثر من 200 عضوًا. والهدف وفق ما أعلنه حينها، هو توزيع المهام على أهل الاختصاص لتنظيم الفعاليات هذا العام.

لكن أخبارًا كثيرة يتردد صداها في المدينة، عن فوضى عارمة تدب في عمل اللجان، حتى أن بعضها لم يجتمع أساسًا، إضافة إلى خلافات كبيرة في الرؤى بين أعضائها، مع تغييب عناصر فاعلة ومهمة جدًا في المدنية، على حساب تغليب المصالح والعلاقات الشخصية في بعض التعيينات للجان.

كلمات الاحتفال
وكانت بداية كلمات الاحتفال مع المدير العام للألكسو، محمد ولد اعمر، مذكرًا بأنه منذ نحو عقود ثلاثة، منذ العام 1996، بدأ تنفيذ برنامج الاحتفاء بالعواصم العربية للثقافة، تخليدًا للمكانة الثقافية للمدن العربية، وشمل الاحتفاء حتى الآن نحو 27 مدينة عربية؛ وتضمن تنظيم معارض الكتب والفنون التشكيلية والحرف اليدوية، وإقامة ورش عمل فنية وعروض مسرح وسينما، إضافة إلى المهرجانات والمسابقات والأسابيع الثقافية، وتبادل الوفود والفرق الفنية، واستحداث المؤسسات الثقافية، وتأهيل المؤسسات الموجودة وتطويرها، ورعاية الإبداع وتشجيع المبدعين.

وقال: “إن الاحتفاء لهذه السنة حط رحاله، في جوهرة الشمال اللبناني مدينة طرابلس التاريخية، أو طرابلس الشام، كما كانت تعرف”. وتحدث عما “يفوق 180 معلمًا أثريًا، تتنوع بين مسجد وكنيسة وخان وحمام ومدرسة وزاوية وسوق، وقصور، وغيرها من المواقع والمعالم الثقافية التي تشكل وجه طرابلس الحضاري. كل ذلك يجعل الاحتفاء هذه السنة، بمدينة طرابلس، فرصة لإعادة اكتشافها من جديد والتعريف بتراثها وأعلامها”.

ومما قاله وزير الثقافة محمد مرتضى، الذي خلت كلمته من إعلان أي برنامج أو خطة: “إذا كانت طرابلس، لم يتسن لها أن تكون العاصمة السياسية للجمهورية اللبنانية، فإن وزير الثقافة، بصفته القيم على الملف الثقافي في لبنان، يعلن من بعد إذنك يا دولة الرئيس (أي ميقاتي)، بأن هذه المدينة الدرّة، عاصمة أولى ودائمة للثقافة في وطننا، اعتبارًا من تاريخه، مع ما يترتب على ذلك من نتائج”.

أما ميقاتي الذي قرأ كلمته حرفيًا من الورقة، فقال: “طرابلس أيها السادة، مدينة ليس كمثلها أخرى، هي المسجد والكنيسة، والمدرسة والتكية، والمكتبة والجامعة، والمستشفى وسوق الفقراء، والخانات والحرف، والقلعة والمعرض، والنهر والبحر، والجزر والهضاب، والأزقة والشوارع، والحارات المملوكية والأحياء الحديثة”.

توازيًا، وقع الوزير المرتضى مع سفير دولة فلسطين أشرف دبور، ممثلاً وزير الثقافة الفلسطيني، اتفاق توأمة بين طرابلس والقدس عاصمتين للثقافة العربية. وتسلم الوزير مرتضى درعًا تذكاريًا من دبور، بينما سلم ولد اعمر وزير الثقافة درع العاصمة الثقافية.

قصة التتويج
كان هذا العام، مناسبة استثنائية قد لا تتكرر، لرد العرفان إلى طرابلس، أو لطلب المغفرة منها عن عقود من الإهمال والحروب والمعارك والدم والفقر والاستغلال السياسي والطائفي والقتل المتعمد لكل معالم الحياة فيها. وكان مناسبة أيضًا، بالفعل لا بالقول، لتحريرها من صبغة التطرف والأحادية والانعزال التي ألصقت بها.

تعد طرابلس من أكثر مدن ساحل شرق البحر المتوسط التي تضم مواقع أثرية، وهي عاصمة المماليك الثانية بعد القاهرة. فكان يمكن لمثل هذا العام، أن يعيد أمجاد طرابلس، المعروفة باسم تريبوليس (Tripolis)، أي المدن الثلاث باللغة اليونانية، بدلاً من الإمعان في دفعها نحو السقوط، كحال آلاف أبنيتها التراثية والتاريخية التي دمرت أو على وشك الهدم.

وبالعودة إلى قصة تتويج طرابلس عاصمة الثقافة العربية للعام 2024، فقد بدأت سنة 2015، حين اختارتها الألكسو عاصمة الثقافة العربيّة للعام 2021. ثم جاء انفجار مرفأ بيروت وتفشي كورونا، فتم تأجيل التتويج للعام 2023، ثم تأجل للعام 2024. وطوال هذه السنوات، لم تستفد الحكومة من الوقت الإضافي، ولا وزارة الثقافة ولا كامل مؤسسات الدولة المعنية، بالشراكة مع المنظمات والجمعيات الأهلية، لم تستثمره للاستنفار والعمل وتهيئة الأرض ووضع برنامج محترف ودقيق من بداية العام حتى نهايته، الذي كان كفيلًا أن ينقل طرابلس إلى ضفة مناقضة لواقعها المرير والصعب.

وسبق أن قال وزير الثقافة بأن العمل لفعاليات هذه المناسبة هو بصفر موازنة. وهو ما يطرح علامة استفهام، حول الخفة في التعامل مع هذا الحدث، بينما يعكس حقيقة النظرة إلى مدينة تقف على أطلال تاريخ ثقافي عريق، وتحديدًا في مرحلة ما قبل استقلال لبنان، وربما لن يعود أبدًا.

جنى الدهيبي- المدن

مقالات ذات صلة