يوم بيروتيّ مجيد: المدينة استعادت شوارعها وفرحتها …كيف تُقهر الغصّة؟

لم يكن فوز فريق الرياضي بيروت ببطولة لبنان لكرة السلّة للمرة الـ31 مجرّد حدث رياضي، كما من المؤكّد أنّه لم يكن موقعة طائفية بين المسلمين والمسيحيين. فالفريقان المتنافسان، الرياضي والحكمة، يمثّلان بيروت بتنوّعها وجمالها وسحرها. كما لم يكن مناسبة تجمع محبّي الرياضة، وتحديداً هواة كرة السلّة في لبنان، ولن يكون الكأس الذي نحته الفنان رودي رحمة هو الكأس الأوّل الذي سيوضع في خزائن النادي البيروتيّ العريق. حكاية الكؤوس مع النادي الرياضي “عِشْرة عمر” تتزاحم وتتراكم في الخزانة الزجاجية، حيث أجيال تلقي التحيّة على أجيال. الرياضي كسنبلة قمح زرعها صائب سلام، وسقاها فأنعشها رفيق الحريري واضعاً إياها بعهدة هشام الجارودي الذي ما ترك باباً وإلا وطرقه من أجل الرياضي. وها هو اليوم مازن طبارة نجل أنيس طبارة، البيروتي الأصيل يقود الرحلة نحو المستقبل وكل ذلك حصل ويحصل تحت ظل سنديانة النادي جودت شاكر (أبو حسن) الذي عاش الماضي ومصاعبه وها هو يرعى المستقبل وأحلامه. لقد كان انتصار الرياضي انتصاراً لمدينة وأهلها وناسها. كان انتصاراً لبيروت بكلّ مناطقها من الأشرفية والمدوّر وصولاً إلى الطريق الجديدة والمنارة وبربور، وهي العطشى لانتصار يُنعِشُ فيها كرامة حاول الكثيرون أن ينتزعوها منها في السياسة والهيمنة والميليشيات والزعران.

كيف تُقهر الغصّة؟

الذين احتشدوا في المنارة مساء يوم الإثنين الفائت ليسوا فقط جمهور نادي الرياضي أبناء قلعة المنارة. بل احتشد أهل بيروت وسكّان بيروت وضيوف بيروت، بشيبهم وشبابهم، وكثيرون منهم لا يعرفون عن لعبة كرة السلّة شيئاً، ولا يميّزون بين رمية النقطتين والثلاث نقاط، والكثير منهم لا يعرف عدد اللاعبين في الملعب، ولا أسماء الكثير منهم. حجّوا إلى المنارة، ومنهم من جلس في داخلها، وكثيرون عند أعتابها، وطافوا حولها مهلّلين مشجّعين والنشيد واحد “نحبّك بيروت”. لقد كانت بيروت هي النشيد الجامع والفرحة وجوهر الصراع. لقد قصد البيارتة أهلاً وسكّاناً ملعب المنارة ليقهروا الغصّة المستوطنة في الحلق، ليصرخوا محتفلين بمدينتهم وفريقهم مهلّلين مطلقين كلّ الفرح المدفون في دواخلهم. كانوا أشبه بثوّار بيروت في ثورة 58، أولئك الذين التفّوا حول صائب بك في قصره بالمصيطبة. وها هم أحفادهم اليوم يلتفّون حول قاعة صائب بك في المنارة. تتمايز الوجوه والأزياء وتختلف العُدّة والعديد. وحدها بيروت هي هي، مدينة تحتفي وتحضن أبطالها.

الاحتفال بفرح المدينة

لم تكن القصّة قصّة بطولة، فهو اللقب الـ31 للنادي الرياضي في تاريخه. ولم يكن الأمر انتصاراً على فريق بحجم نادي الحكمة، فالرياضي عين والحكمة هي العين الأخرى، وكلاهما يمثّلان بيروت. لطالما تبارى الفريقان وانتصر أحدهما على الآخر. ميزة كرة السلة أنّ المباراة فيها لا تنتهي بالتعادل ولا بدّ في النهاية من منتصر، وإن احتاج الأمر تمديداً للوقت. لقد ملّ البيارتة تمديد الوقت وانتظار عقارب الساعة. ملّوا الوقوف في ساحة الانتظار وكتابة أسمائهم على لوائح الانتظار متعطّشين للنصر، للرقص في شوارع مدينتهم دون أن يمنعهم أحد أو أن يقمعهم أحد. كأنّهم في المنارة أمام قاعة صائب سلام أرادوا صناعة الاستقلال الثالث. أرادوا الاحتفال بكلّ انتصاراتهم قديمها وجديدها. أرادوا الاحتفال باستعادتهم الشارع والرصيف وأعمدة الكهرباء. لم تكن هناك بين الجموع راية حزب أو حركة أو تيار. لم يحملوا صورة زعيم، ولا نادوا باسم زعيم. بل صرخوا بصوت ملأ عنان السماء. صرخوا باسم بيروت وناديها وأبطالها الشباب المنتصرين.

في المنارة كانت عوائل بيروتية تفترش الرصيف. كان هناك الأب والأمّ وأبناؤهما الصغار والكبار، وجدٌّ يمسك بيد حفيده، وشابّ يعانق حبيبته، وأمّ تحيط بأبنائها الصغار. أطفال بيروت كانوا على الاكتاف لم يختبؤا خلف جدار ولا خلف باب الدار. استعادوا الشارع. تصالحوا مع “الزفت” ومع الطرقات. الشبّان خلعوا قمصانهم دون حياء، فالاحتفال لبيروت يجيز كلّ شيء وأيّ شيء.

بيروت يوم الإثنين الفائت اتّصل ليلها بالنهار. كان يوماً بيروتياً لا يعترف بالتوقيت الصيفي ولا بالشتوي. صنع البيارتة في شوارعهم يوماً جديداً بدأ عند إطلاق حكَم المباراة صفّارته معلناً ولادة بطل جديد. وانتهى مع ساعات الفجر الأولى عندما عاد كلّ منّا إلى منزله مبحوح الصوت متخماً بالفرح والصدح بالنشيد حتى كاد أن ينفجر الوريد.

صنع البيارتة يومهم. وهو يوم بيروتيّ مجيد.


زياد عيتاني- اساس

مقالات ذات صلة