المشهد مؤلم وحسّاس: لا تقتلوا القطط…

استحوذ مسلسل “أولاد بديعة” على حصّة الأسد في المشاهدات و”الترند” في الدراما السورية المعاصرة، وازدادت أكثر بعد كلّ ما تمّت إثارته حول مشهد “تعذيب القطط”، معتبرين أنّ المخرجة رشا شربتجي تقصّدته بهدف خلق الإثارة” في الاعلام!
لكنّ الأمر لا يمكن تناوله من هذه الزاوية الضيّقة من دون النظر للحدوتة كاملة، فالعمل يتناول خلاف أبناء امرأة مشرّدة تدعى بديعة (إمارات رزق) وبين أخيهم من أبيهم “مختار” (محمود نصر) وهو الابن الشرعي لصاحب معمل دباغة.

وتأتي فكرة قتل القطط في رأس مختار الصبيّ آنذاك انتقاماً من إخوته غير الشرعيين (شاهين وياسين وسكر) لأنّهم رموه عن القطار وشجوا رأسه.
تعذيب القطط المحببة عند أخوته له تبريره في سياق القصة، باعتبارها تعويضاً عن الأذى الذي لحق به شخصياً.
لكنّ المشهد المؤلم والحسّاس أثار استياء المشاهدين، وتهجّم بعضهم على المخرجة بتهمة بحثها عن الإثارة كوسيلة ترويج لأعمالها.
ولكن، بما أنّ رشا شربتجي مخرجة معروفة فإنّ أعمالها لا تحتاج إلى هذا النوع من الإثارة كي تُشاهد. فاسمها- وأنا لست من كبار معجبيها بحق- يكرّس هوية إخراجية خاصة بها.

مشهد القطط أثار استياء المشاهدين، وتمّ تداول الخبر وكأنّ جريمة تعذيب حقيقية ارتُكبت في العمل ضدّ الحيوانات، في حين أنّ تصريحاً استباقياً جاء في الشارة كتوضيح بأنّ المشاهد صُوّرت في حضور طاقم طبي ولم يتعرّض أي من القطط للأذى، والمسلسل لا يهدف للترويج للعنف ضدّ الحيوان بقدر إدانته لهذا الفعل.

فاللقطات هدفها توضيح حجم العنف والشر الذي يكتنزه مختار الطفل كشخصية مريضة نفسياً، والذي انتقم من أشقائه بقتل ما يحبون: قططهم!
ويمكن ربط العنف الذي مارسه في طفولته مع مستقبله كمجرم: عندما يقتل الأم بديعة ويتذكر كيف قتل القطط في طفولته بعدما ضربه إخوته، وهي تصرفات توضح شراسته كطفل وتعكس جانبه المرضي واستعداده للقتل.

ومن علامات شخصية “القتلة”، يحكي علم النفس عن ميلهم إلى تعذيب الحيوانات وإضرام الحرائق في الطفولة، وهو ما سيفعله مختار لاحقاً عندما يضرم النار ببديعة “أم إخوته الأعداء”!
هذا عدا عن سفالته وفوقيته الإجرامية عندما يرى أنّ انساناً عادياً كسائق تاكسي لا يحق له الحياة!
هذه الشوفينية يتباهى بها كمجرم بوقاحة، فينتهي الأمر بطرده من سائق التاكسي ورميه على قارعة الطريق.

في كل الأحوال، كان يمكن اقتراح وضع تحذير قبل الحلقة في حال وجود مشاهد دموية – ولم يتوفّر ذلك بالمشهد بالمناسبة- أو وجود مشاهد غير مناسبة للأطفال ولذوي القلوب الضعيفة والحساسة “مثلاً”، ولكن أن يكون الردّ بأن جمعيات الرفق بالحيوان تألمت للمشهد وتداولته من على “السوشيل ميديا” بأنّه سبّب أذى للمشاهد، ففي الأمر شيء من المبالغة، وسط قصف عنيف من الإعلام نعيشه يومياً، بدءاً من أحداث غزة وصورها الدموية، والتي لم نسمع اعتراض جمعيات الرفق بالحيوان على تشريد حيوانات غزة مثلاً وقصفها وتحوّلها إلى حقل تجارب في فرن بشري كبير، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي الزاخرة بمشاهد العنف وبرومو أفلام الأكشن وغيرها، عدا عن دموية مسلسلات وأفلام الدراما الغربية التي يشاهدها الجميع على التلفزيون والمنصات.
فمن منا ينسى سلسلة “العرّاب” الأميركية التي رأينا فيها رأس حصان مقطوعاً وُضع في سرير مضرج بالدم، وهو من الأفلام التي تُعرض بشكل دوري على التلفزيون.

أما كثرة الانتقادات فساهمت ربما في الترويج أكثر فأكثر للمسلسل الذي حصد متابعة جيدة وإشادة لجهة فرادة حكايته وشخصياته.

ومن أبرز هذه الشخصيات، نجد أم جمعة- تقوم بدورها نادين خوري- التي تقود دراجة نارية وتعمل كالرجال في الدباغة وسط الدم والجلود المسلوخة في مذبح وفي ساحة للتوحش، أو بديعة التي تزرع شارع الدباغات بخطواتها الجائعة ونظراتها الزائغة مع الطفلة سكر.

بالمختصر، المسلسل تجربة قابلة للتقييم سلباً أو ايجاباً لكنه، على الأرجح، لم يسع الى الإثارة بقدر انغماسه في بيئة محلية وحدوتة درامية يقدّمها بحرفية وتوظيف مشهدي لأدواته الفنية.

القطة المشرّدة وصغارها في الشارع هي تماماً كبديعة وأبنائها شاهين وياسين وسكر (سامر إسماعيل ويامن الحجلي وسلافة معمار).

جريمة قتل القطط تمهيد لما يرتكبه مختار لاحقاً بقتل بديعة، في مشهد مدروس يلعب على وتر الحكاية المستعادة للإخوة الأعداء في رواية “الأخوة كارمازوف”، وبالتحديد شخصية بافل الذي يعذب الحيوانات، ولا نعلم إن كانت جمعيات حقوق الحيوانات هذه ستعترض على ديستوفسكي وكتابته إحدى روائعه وتضمينها مقطعاً “يجرح” مشاعرهم وينتهك حقوق الحيوانات.

بالمجمل، يمكن القول إنّ الثنائي الكاتبين علي وجيه ويامن الحجلي، عملا على صنع استعارات ومن ثم مواءمتها بطريقة محلية متقنة، فسبق وأن شاهدنا لهما في مسلسل “مع وقف التنفيذ” استعارة من فيلم “taxi driver”، الذي أدّاه يامن الحجلي، كعنصر أمن فاسد يقود سيارته الأجرة ويشاهد دمار المجتمع وحجم سواده خلال الأزمة. ولعلّ كلمته التي يكرّرها طوال العمل هي أبسط تفسير لكل ما جرى حين يقول “وسخنا عبّى الدنيا”.

“ولاد بديعة” من إنتاج “بنتالنز” ويُعرض على منصّة “شاهد و MBC”، لنتابع بأي اتجاه سيأخذنا في الموسم الرمضاني الحالي، مع دخوله متاهة الأزمة السورية وخرابها، في ظلّ مشاركة أبو الهول عراب تهريب البنزين، الذي يقوم بدوره محمد حداقي.


النهرا العربي

مقالات ذات صلة