“ولاد بديعة” والعنف الرخيص: السوريون لا يستحقون الحرية!

منذ تجربتهما الأولى في الكتابة التلفزيونية العام 2015 بعنوان “عناية مشددة”، وحتى اليوم في “ولاد بديعة”، لم يقدم الكاتبان السوريان، علي وجيه ويامن الحجلي، سوى العنف الرخيص على الشاشة بأسوأ طريقة ممكنة، ليس فقط بسبب نشر التسامح مع العنف بحد ذاته كسلوك طبيعي، تجاه الحيوانات أو البشر، بل أيضاً بسبب ربط ذلك المفهوم بالمدنيين أنفسهم في بلاد قامت فيها السلطات السياسية والعسكرية قبل الثورة السورية وبعدها بتقديم أسوأ نماذج للعنف ضد المدنيين.

وفي “ولاد بديعة” الذي يعرض ضمن الموسم الرمضاني الحالي، يحضر العنف بأشكال متعددة، لعل أبرزها في مشهد قتل القطط بشكل سافر في الشاشة. ورغم توضيح المخرجة رشا شربتجي، الباحثة عن “الإثارة” في أعمالها السابقة أيضاً، بأن القطط لم تصب بسوء في الحقيقة، إلا أن المشهد نفسه يلخص الدراما التي يقدمها الثنائي وجيه والحجلي، والقائمة على مشاهد تقطيع الجثث والدماء المتناثرة والتعذيب والأشلاء المتناثرة هنا وهناك، وكلها صفات غريبة بالنسبة لدراما اجتماعية.

حتى الشخصيات المُسندة إليها البطولة في تلك المسلسلات، تبدو غريبة، وكأنها نسخ فاقعة التفاهة مأخوذة من مسلسلات وأفلام الجريمة والأكشن والرعب في هوليوود، لتقديمها على انها “جرأة” و”تجديد” ضمن الدراما المحلية التي تعمل برعاية السلطة السياسية وموافقتها أولاً وأخيراً. علماً أن الفارق الجوهري بين الجانبين، الأميركي والسوري، هو أن الأعمال الأميركية تكون مبنية على أسس نفسية وترفيهية عالية ومحددة ضمن حدود “القصة – الحكاية الدرامية”، ولا تقدم الدعاية بشكل فج كما هو الحال في النماذج السورية.

ومن يتابع كافة المسلسلات التي كتبها وجيه والحجلي، يتكون لديه انطباع بأن العنف الذي شهدته البلاد بعد العام 2011 كان حتمياً بسبب انتشار ثقافة العنف بين السوريين. ورغم أن تلك المقولة الأخيرة صحيحة نسبياً، إلا أنها في مسلسلات وجيه والحجلي كافة، تستثني الأسباب التي تجعل العنف قائماً بالدرجة الأولى. فتعذيب الحيوانات، مثلاً، شائع، خصوصاً من قبل الأطفال، لكن أسبابه ليست مجرد عنف باطني يولد مع السوريين، بل هو نتيجة لمجتمع القهر الذي أسسه “البعث” منذ العام 1970.

والمجتمع المقهور يشهد انتشاراً لسلوكيات عدائية لا تتوافر في مجتمعات طبيعية، مثل إلقاء القمامة في الأنهار أو قطع الأشجار أو الصيد الجائر أو تخريب المنشآت العامة أو تعذيب الحيوانات، وغيرها من مشاهد ترتبط بانحطاط عام في الأخلاق العامة التي تواصل انحدارها كلما كانت السلطة في أوج قوتها، وتصل حتى حد الألوهية بمعنى تحكم “القائد الخالد” بحياة الأفراد من حولهم بطريقة أو بأخرى.

وبتصدير صورة مجتمع القهر من دون أي سياق سياسي أو اجتماعي حقيقي، مثلما يفعل الثنائي وجيه والحجلي، تُخلق صورة كاذبة للسوريين كشعب لا يستحق الحرية ولا الديموقراطية التي طالب بها، بل هم بحاجة إلى سلطة تسيطر على ذلك العنف الموجود داخلهم بأي طريقة كانت، من أجل مصلحة البشرية، بشكل يتوازى مع خطاب النظام السياسي الذي يصف فيه نفسه بأنه حارس البوابة بين الشرق والغرب، ويطرح فيه نفسه دعائياً ودبلوماسياّ منذ عقود، على أنه يحمي الغرب من قطعان الإسلاميين و”الهمج” الذين قد يغزون أوروبا القريبة، بالهجرة أو بالإرهاب، في حال لم تتم السيطرة عليهم.

والإنسان السوري ممن تدعي دراما وجيه والحجلي تمثيلهما، يعاني ضغوطاً متراكمة، خصوصاً أنه لا يقدر على تحدي السلطة، وحتى عندما تحداها العام 2011 كانت النتيجة مروعة بشكل أسوأ مأساة إنسانية منذ الحرب العالمية الثانية بحسب توصيف الأمم المتحدة. وأمام عنف السلطة متعدد الأشكال، ثقافياً وسلوكياً، تتشكل دائرة من العنف يفرغ فيها الأفراد القهر المتراكم في داخلهم على من هم أضعف منهم، كضرب الرجل لزوجته، وتعنيف الأم لأولادها، وتعذيب الأطفال للحيوانات، ولا يتوقف ذلك عند العنف الجسدي بل يتعداه نحو العنف اللفظي والنفسي والتعدي على حقوق الآخرين.

وعنف نظام الأسد يقوم على مستويات متعددة، من سياسات الاعتقال والتعذيب والإعدام إلى السجون التي توصف من قبل منظمات حقوقية دولية بأنها “مسالخ بشرية”، إلى العنف النفسي والثقافي عبر نشر التماثيل والشعارات التي ترسخ جبروت السلطة أمام المواطنين الفقراء والبسطاء في الشوارع، إلى المؤسسات الرسمية التي يشكل التعامل معها كابوساً بسبب البيروقراطية وعدم الكفاءة إلى نظام التعليم المؤدلج والعزلة الثقافية التي حولت سوريا طوال عقود إلى نقطة منفصلة عن محيطها خصوصاً من الناحية التكنولوجية، وصولاً إلى القوانين التي تقيد الحريات الفردية، وغيرها.

وإن كانت مسلسلات الثنائي السابقة، من “عناية مشددة” حيث المسلخ وقصص التعذيب مع السفاحة هموم (أمانة والي)، إلى تجار المخدرات في “هوا أصفر” (2019) إلى “على صفيح ساخن” العام 2021 في مكبات النفايات، فإن “ولاد بديعة” اليوم يأخذ الأحداث إلى تسعينيات القرن الماضي، ما يخلق انطباعاً بأن مشكلة عنف المدنيين السوريين هي مشكلة أزلية وليست طارئة بالحرب السورية مثل المسلسلات السابقة. وبذلك يتم بشكل غير مباشر، تقديم السلطة البعثية/الأسدية على أنها الحل الوحيد لإشاعة “الأمن والأمان” في البلاد، علماً أن التسعينيات كانت عموماً فترة قاتمة في الحكم الأسدي بعد أحداث حماة في الثمانينيات.

ومن المثير للاهتمام، أن افتتان الثنائي الحجلي ووجيه بالعنف إلى هذا الحد، يذكر إلى حد بعيد بفلسفة “جمال الشر” التي بنى عليها تنظيم “داعش” دعاية دموية صدَم بها العالم عندما أنشأ دولة خلافته المزعومة في سوريا والعراق العام 2014 قبل انهيارها. وهو ما تحدث عنه مصورون تابعون للتنظيم العام 2017. والفارق بين الجانبين أن فيديوهات “داعش” كانت تصور الفعل الإجرامي نفسه، مثل الإعدام، بطريقة سينمائية وأساليب تحاكي تلفزيون الواقع. بينما تركز فلسفة الثنائي السوري وجيه وحجلي، على النتيجة نفسها، أي الموت والعقاب مع التنصل من الفعل نفسه، في محاولة التنكر بمظهر “نبيل” لبناء سردية توازي الخطاب الدبلوماسي لسلطة لا تقل إجراماً عن “داعش” والحركات الجهادية المشابهة له.

وعبر هذا الضخ للعنف وتقديمه في سياق الجرأة والخروج عن المألوف والنمطي، يتم خلق وهم آخر متعلق بالحريات في البلاد، حيث يتمكن الفنانون في مناطق النظام من العمل “بحرية” لتقديم أنماط خارجة عن الآداب العامة التي تعمل الدراما ككل على ترسيخها، وتندرج في ذلك الإطار الشخصيات العنيفة، خصوصاً الشخصيات الأنثوية، أو الشخصيات التي توصف بأنها “غير أخلاقية” كالراقصات على سبيل المثال. ويتم تعميم ذلك للقول أنه تتوافر في سوريا الأسد مقومات صناعة الفن التي لا تتواجد لدى الأطراف السورية الأخرى، بشكل يقدم السلطة في دمشق كسلطة نبيلة وحضارية في وجه الإرهاب والتخلف.

وتعزز تلك الصورة النهائية، بالنظر إلى كل ما قدمته المعارضة السورية على مستوى السلطات المعارضة، تحديداً في الفصائل الإسلامية والجهادية التي استولت على المشهد المعارض، وقدمت نماذج مروعة للعنف بدورها، كان المدنيون من كافة الأطراف السياسية ضحيتها أيضاً. وهي نقطة لا تتوقف الدراما السورية ككل عن إلقاء الضوء عليها على أنها الانتهاك الوحيد للقانون وحقوق الإنسان في البلاد!

المدن

مقالات ذات صلة