إفراغ غزّة من الصحافيين والمصوّرين: خفّ وهج قناة «الجزيرة» في تغطيتها للعدوان

«إسرائيل» المهزومة... تحاصر الصورة

مع انتشار أخبار عن صفقات تعقدها بعض القنوات العربية للتخفيف من حدّة التغطية في غزّة، خصوصاً لناحية صور الأطفال الشهداء والمبتوري الأطراف، اتّخذت المواجهة مستوى أعلى مع تعمّد كيان الاحتلال دفع الصحافيين الفلسطينيين إلى النزوح خارج القطاع، في محاولة لاستعادة التحكّم في السردية والمحتوى اللذين يُنشران في وسائل الإعلام وصفحات السوشال ميديا…

يفرغ العدو الإسرائيلي قطاع غزّة من صحافييه ويدفعهم إلى النزوح خارجه. تلك هي الخطة التي تتّبعها إسرائيل بعد دخول العدوان على غزة شهره الثالث، في محاولة متكرّرة لإطفاء كاميرات الصحافيين والمراسلين والناشطين على صفحات السوشال ميديا، الذين نجحوا بصورهم وتقاريرهم في نسف السردية الصهيونية وإظهار الإبادة الجماعية المُرتكبة في القطاع، وتغيير مزاج الرأي العام العالمي. في هذا الإطار، طلب العدو أخيراً من الصحافيين إفراغ مناطق جنوب قطاع غزّة حيث تتمركز غالبيتهم، في محاولة لمحاصرة الصورة الخارجة من القطاع والتعتيم على جرائمه. وبينما خرجت أصوات قبل أسابيع تفيد باستقالة مدير مكتب قناة «الجزيرة» في غزّة وائل الدحدوح (الأخبار 27/10/2023)، بعدما طلبت المحطة القطرية ترحيله إلى معبر رفح على الحدود المصرية، خرج الصحافي الفلسطيني الذي استشهدت غالبية عائلته بداية الحرب، في فيديو على منصة x نافياً الخبر جملة وتفصيلاً، مؤكداً بقاءه في غزة واستمراره في عمله. ورغم الضغوط التي يتعرض لها الصحافيّون في غزة، ولكنهم لا يزالون مصرّين على نقل صورة الواقع في القطاع. وفي كل رسالة يخرج بها الصحافي، يؤكد أنّها قد تكون الأخيرة جرّاء القصف العنيف.

في الواقع، كانت التغطية الإعلامية للصحافيين في غزة، تاريخية ومؤثرة، مع العلم أن غالبيتهم تقدّم رسائلها باللغة الإنكليزية ويتابعها الملايين، فوصل صدى محتواها إلى العالم ككلّ حيث تُنظّم التظاهرات المندّدة بإسرائيل بناءً على رسائل الصحافيّين وآخر الأخبار الواردة منهم.

من أهم الصحافيين والمراسلين والناشطين على السوشال ميديا اليوم هم: بيسان عودة الحكواتية وصانعة المحتوى التي تنقل يوميات معاناة النازحين وفقدان كل مقوّمات الحياة بفعل المحرقة الإسرائيلية، وكذلك الصحافيين والمصورين صالح الجعفراوي، وبلستيا العقاد، ومعتز عزايزة وغيرهم. معظم هؤلاء فقدوا عائلاتهم وكُسرت قلوبهم، حتى إنّهم لم يعيشوا الحزن على استشهاد عائلاتهم، وبدت علامات التعب واضحة على ملامح وجوههم.

من جانبه، يتفنّن العدو الإسرائيلي في ممارسة جرائمه بحق الصحافيين، إذ اعتقل الأسبوع الماضي مراسل ومدير مكتب صحيفة «العربي الجديد» في غزة ضياء الكحلوت مع مجموعة من الغزيين، وانتهك حقوقه الإنسانية والشخصية وكرامته، بنشر صور المعتقلين وهم شبه عراة. صحيح أنّ للعدو تاريخاً حافلاً في استهداف الصحافيين، ولكنه يمارس حالياً أقصى وأبشع أنواع الجرائم بحق الإعلاميين ويجبرهم على ترك أماكنهم والنزوح نحو مناطق أخرى، بدعوى أنّها أكثر أماناً. مع العلم أنّ لا مكان آمناً في كل القطاع على حد قول وائل الدحدوح مرةً في رسالة على الهواء. وإذا لم يستهدف العدو الصحافيين مباشرة، فإنه يضغط عليهم عبر قتل عائلاتهم أو تخويفهم وترهيبهم كما حصل مع مراسلة «الميادين» في القدس المحتلّة هناء محاميد (الأخبار 9/11/2023). فقد خسرت غالبية الصحافيين الغزيين عائلاتها خلال القصف. في مخيم جباليا شمال القطاع، أعلن أنس الشريف مراسل «الجزيرة» في غزة، أول من أمس عن استشهاد والده بعد استهدافه في المخيم. وقبل أيام، كشف مراسل قناة «الجزيرة» مؤمن الشرافي عن استشهاد عائلته الأسبوع الماضي في المخيم نفسه. علماً أنّه استشهد ثلاثة صحافيين لبنانيين خلال قيامهم بواجبهم في جنوب لبنان، وهم مصوّر وكالة «رويترز» عصام عبدالله (الأخبار 8/12/2023)، ومراسلة قناة «الميادين» فرح عمر وزميلها المصوّر ربيع معماري (الأخبار 22/11/2023).

في هذا السياق، تلفت المعلومات لنا إلى أنّ العدو يمارس مختلف أشكال الممارسات والضغوط النفسية بهدف تدمير معنويات الصحافيين. وتشير المصادر إلى أنّه يُبلغ الصحافيين الفلسطينيين وعائلاتهم باستهدافهم مباشرة، مهدداً إياهم بقتلهم، وطالباً منهم إطفاء كاميراتهم التي تنقل صورة مجازره كي يتحكّم في المحتوى الإعلامي الذي يسعى إلى نشره، وترسيخ السردية الصهيونية التي فشل مراراً في نشرها. على أن يتم تباعاً إفراغ القطاع من الصحافيين وتعتيم صورة الجرائم هناك. وتكشف المعلومات أنّ مجموعة من الصحافيين في غزة، قرّرت ترك الساحة الإعلامية بعد تعرّضها لضغوط كبيرة وفقدان جميع مقوّمات الحياة في غزة (الماء والطبابة والطعام) وخسارتهم غالبية عائلتهم. أمر دفعهم إلى عدم التضحية بمن بقي من عائلاتهم وقرروا النزوح معاً خارج قطاع غزة، بينما يُتداول في الأوساط الإعلامية عن صفقات تعقدها بعض القنوات العربية مع العدو الإسرائيلي، للرضوخ لأوامره والتخفيف من حدة التغطية في غزة.

وتلفت المعلومات إلى أنّ قناة «الجزيرة» (الأخبار 15/11/2023) تتعرّض، منذ اليوم الأول للعدوان، لضغوط من العدو الإسرائيلي بهدف وقف النقل لصورة الأطفال تحديداً. صورة لعبت دوراً أساسياً في إشعال التظاهرات المندّدة بإسرائيل في العالم. ويبدو واضحاً أنّ المحطة التي تمارس ازدواجية المعايير في سياستها التحريرية عبر استقبال الإسرائيليين ومحاورتهم، قد خفّ وهج تغطيتها الإعلامية بعد استئناف العدو عدوانه بعد الهدنة. ومقارنة بأيام العدوان الأولى، فقد تراجعت الفضائية عن التركيز على نقل صور الأطفال (أشلاء، جثث، وحتى الأحياء)، وهذا هو المطلب الأساسي للعدو الإسرائيلي. على الضفة نفسها، يعلّق أحد الناشطين على صفحات السوشال ميديا على تغطية الصحافيين للعدوان بأنه «للمرة الأولى في التاريخ الحديث، نشاهد عدواناً ومجازر مباشرة على الهواء». وتساءل أنه مهما سعى العدو إلى إطفاء كاميرات الصحافيين، فقد سبقوه منذ اليوم الأول للعدوان إلى كشف صور الجرائم التي يرتكبها بحق آلاف الأطفال والمدنيين الآمنين، مختتماً بالقول «تخيّل هذا العدوان من دون كاميرات الصحافيين في غزة. فالصورة ستكون ناقصة، ولكنّها اليوم واضحة وضوح الشمس».


86 شهيداً… و44 معتقلاً
قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، أخيراً إنّ حجم الدمار في غزة بفعل حرب الإبادة الإسرائيلية «يفوق ما تعرضت له المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية». غير أنّ الأرقام القياسية التي تحققها إسرائيل لا تقف عند هذا الحدّ، إذ تخطّى عدد الصحافيين الشهداء في القطاع في شهرين الحصيلة التي سُجّلت في الحرب نفسها وحرب فيتنام والحرب الكورية، وفقاً لإحصاء مؤسسات معنية رصدته وكالة «الأناضول». فقد أقفل عدّاد الصحافيين الشهداء مساء أمس على 86 شخصاً، في ظلّ تعمّد قوّات الاحتلال على استهداف أهل «مهنة المتاعب» وعائلاتهم لكمّ أفواههم وإخفاء صوت الحقيقة، ضاربةً عرض الحائط القانون الدولي الذي يعتبر ذلك جريمة حرب.

ووفقاً لمؤسسة «منتدى الحرية» التي تتخذ من واشنطن مقرّاً لها، فقد 69 صحافياً حياتهم خلال ستّ سنوات في الحرب العالمية الثانية المعروفة بأنّها الأكثر دموية في العالم الحديث. كما قُتل 63 صحافياً اثناء الاحتلال الأميركي لفيتنام على مدى قرابة 20 عاماً، فيما فقد 17 صحافياً حيواتهم في الحرب الكورية التي استمرت ثلاث سنوات.

ووفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، يُستشهد صحافي واحد على الأقل يومياً على أيدي الصهاينة في فلسطين منذ بداية العدوان.

وفي سياق متصل، يتعرّض الصحافيون أيضاً للاعتقال والرقابة، إذ أعلن «اتحاد الصحافيين الفلسطينيين»، في بيان صادر في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، عن اعتقال 41 صحافياً منذ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، لم يطلق سراح سوى 12 منهم لاحقاً بعد فترات اعتقال مختلفة. ووفقاً للاتحاد، فإنّ 44 صحافياً فلسطينياً يقبعون في السجون الإسرائيلية.

زكية الديراني- الاخبار

مقالات ذات صلة