غاب عندما غاب عموده عن “النهار”
إلياس الديري “زيان”… لم يتمكن عقب إنفجار بيروت المزلزل من أن يصمد أكثر من ثلاث سنوات، بعدما شاهد المدينة وقد تدمرت أجزاء منها، وهو الذي نزل فيها عاشقاً لهاً، قادماً من الكورة، لتكون حاضنته وملاذه.
بعد تفجير بيروته، وفيما المرض بدأ ينال من جسده، لم يعد يمسك قلمه ولا يلامس أوراقه، مبتعداً لا بل معتكف عن الكتابة، التي كانت منذ نعومة أظفاره الروح التي تبعث الحياة في جسده، وكأنه تعبير صوفي عن غضبه وحزنه على معشوقته بيروت التي تحتضر أمام عينيه، وهو الذي كان له في كل أماكنها حكاية، يستوحي منها مقالاته.
تفجير بيروت أوقفه عن الكتابة، التي هي هاجسه وضالته، على الرغم من أن كل ما مرّ على الجسم الاعلامي في لبنان خلال الحروب المتعددة من مخاطر وإستهداف وتضييق، وصولاً إلى التصفية والاغتيال، لم تمنع قلمه من كتابة عموده في “النهار”، في أوج الحرب اللبنانية، بكل مأساتها وكوارثها، بل بجرأته وشجاعته المهنية، وبإيمانه برسالته كصحافي، واجه كل المخاطر والظروف بإقدام، غير آبه لكل ما كان يتعرض له من مضايقات وتهديدات و”نصائح مبطنة”، فحصّن نفسه بتذييل مقاله اليومي باسم “زيان”(!) مع أن الجميع كان يعرف من هو “زيان” (حتى غلب “زيان” على إلياس الديري)، من خلال أسلوبه في الكتابة الصحافية، الذي يجمع ما بين التحليل السياسي المدعوم بالخبر والمعلومات، والمصاغ بمفردات الأدب والثقافة، التي تعبّر عن رجاحة فكره المتنور، بعيداً من التعقيدات اللغوية، معتمداً على البساطة والسهولة الراقيتين.
عرّف في إحدى المرات القليلة علاقته بجريدة “النهار”، معتبراً نفسه تلميذها منذ العام 1959، قائلاً: “إنّها تكبرني بقليل. أنا أعطيتها عمري كلّه، فمذ كنت في الثّامنة عشرة وأنّا أعطيها كلّي. إلى اليوم، النهار وأنا في عقد أخلاقي، داخلي، تاريخي، محق، نظيف وراقٍ، أشبه بالغرام الحقيقي الذي لا تعتريه أي ذلّة صغيرة، وستبقى معي إلى أن أرحل”.
إلياس الديري… الذي يجمعه في شخصه الطيب، الاعلامي والمحلل وصانع الخبر و”صياد” الأسرار والأديب والروائي، كان إضافة إلى كل هذه الصفات يتمتع بروحه المرحة، التي تخيم على كل اللقاءات والاجتماعات مع القادة والسياسيين وزملائه في المهنة، الذين جميعهم ينتظرون إنضمامه إليهم، حتى تأخذ جلساتهم إتجاهاً آخر، بعيداً من النقاش الجاف، إلى أجواء النقاش المفعم بالحيوية والطرائف والمداعبة، التي كان إلياس يجيدها بسرعة بديهته، فيضفي على اللقاءات أجواء من الطرافة والفكاهة، تخرق جمود النقاش السياسي وفظاظته، خصوصاً في أوقات التأزم والمشاحنات.
إلياس الديري، لم يغب عنا اليوم، بل غاب فعلياً عن “النهار” وعن الصحافة والاعلام، وعن زملائه وقرائه، عندما غاب “عموده” عن جريدة “النهار”، بعدما كان أحد أهم ركائزها على مدى عقود من الزمن.
أستاذ إلياس… سنفتقدك!
زياد سامي عيتاني- لبنان الكبير