لبنان يقاوم سينمائيا من بيروت إلى طرابلس
مهرجانان سينمائيان انطلقا في لبنان بفارق زمني لا يتعدى أربعة أيام.المهرجان الأول تنظيم لبناني صرف يجري للمرة العاشرة في مدينة طرابلس ويُعرف بـ”مهرجان طرابلس للأفلام” (21-29 سبتمبر/أيلول)، والثاني أعرق بكثير، إذ بدأ قبل ثلاثين عاماً وهو من تنظيم بعثة مفوضية الاتحاد الأوروبي في لبنان واشتهر تحت مسمى “مهرجان السينما الأوروبية” (25 سبتمبر – 4 أكتوبر/تشرين الأول).
طوال فترة الأزمة الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية التي تعصف بلبنان منذ أربع سنوات والتي تكلّلت بتفجير مرفأ بيروت، لم يتوقّف القائمون على الفنّ والثقافة في البلاد عن محاولة النهوض بالحياة السينمائية من خلال إقامة نشاطات هنا وهناك، ولكن من دون أن يكون لها وقع على المشهد السينمائي. مشكلات وتحديات كثيرة تعترض طريق العودة إلى ما كانت عليه الحال قبل 2019، على رغم أن كل شيء يعود تدريجاً إلى سابق عهده على المستوى المعيشي. لكنّ الثقافة تحتاج إلى وقت أكثر للتعافي، ومن شروطه الاستقرار السياسي والقدرة الشرائية في بلاد تعاني من انهيار على جميع الأصعدة. حتى صالات السينما، عادت تمتلئ تدريجاً بالمشاهدين، خصوصاً مع أفلام مثل “أوبنهايمر” و”باربي”، على رغم بلوغ سعر تذكرة السينما الواحدة مبلغاً لا يستطيع عليه المواطن ذو الدخل بالليرة اللبنانية، علماً أن عدد الشاشات العاملة حالياً تراجع بعد التفجير.
أحد أسباب صعوبة تنظيم حدث سينمائي بالمستوى المطلوب، هو إقفال صالة “أمبير متروبوليس” الواقعة في مركز “صوفيل” (منطقة الأشرفية، شرقَ بيروت)، التي قررت إغلاق أبوابها بعد نحو شهرين على قيام انتفاضة 17 أكتوبر الشعبية التي دخل البلد على أثرها في نفق مظلم ما زال فيه حتى اليوم. شكّل إغلاق هذا الصرح كارثة على الحياة السينمائية في البلاد، وجاء نتيجة تفاعلات الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ألقت بظلالها على الواقع اللبناني، ممّا جعل الاهتمام بأي شيء غير الأولويات المعيشية نوعاً من الترف. “في ظلّ انهيار شبه كامل لكل شيء، لم يعد إقفال سينما أمراً مستغرباً”، بهذه الكلمات رثينا وقتها آخر متنفس للسينما غير التجارية في بيروت، خصوصاً بالنسبة إلى الأجيال التي لها فيه ذكريات قيمة، إذ كوّن فيها ثقافة سينمائية على مدى عقود طويلة. فهذه الصالة التي تأسست عام 1983، أي في عز الحرب الأهلية، أتاحت للمشاهدين طوال أربعة عقود التعرف إلى أعمال لا تُعرض في المجمّعات السينمائية الكبيرة التي تراعي منطق “الجمهور عايز كدة”.
أربع سنوات بعد إقفالها، لا يزال المشاهدون في لبنان يشعرون باليتم. المدينة فقدت مركزها وخسرت قلبها النابض. عدم إيجاد بديل لـ”الصوفيل” يلم شمل الجميع، جعل الجهات المنظمة للمهرجانات السينمائية تلجأ إلى صالات هامشية، مثل صالة “المركز السينمائي الفرنسي”، بالتالي أصبحت هذه المهرجانات شريدة ومتنقّله لا تجد من يؤويها. أما مهرجان السينما الأوروبية، الذي كان طوال سنوات يُقام في “الصوفيل”، فاختار لدورته الحالية صالات متعددة في أكثر من منطقة، لعرض ما لديه من جديد، الأمر الذي يشكّل عائقاً أمام إشاعة جو مهرجاني حقيقي، كما كانت الحال في الماضي، حين يأتي الرواد إلى السينما ويمكثون فيها طوال اليوم حتى الساعات المتأخرة، يلتقون فيها بالأصدقاء ويتبادلون معهم الأحاديث حول الأفلام.
تقول إحدى المشاهدات التي تتابع مهرجان السينما الأوروبية منذ سنوات طويلة: “عتبي على هذا المهرجان كبير. فشل الإدارة في إيجاد مساحة في بيروت، فتم توزيعه على عدة مناطق بيروتية، من بينها متحف سرسق وصالة واقعة في مجمّع سينمائي. على المهرجان الحقيقي أن يُعقد في مكان واحد ليسمح لنا بمشاهدة أكبر عدد ممكن من الأفلام، وهذا يعني الذهاب إلى المكان نفسه لأيام متتالية كما لو كان المهرجان وجهتنا. روح المهرجان تكمن في المكان، وهكذا هي الحال في الدول العربية والغربية. لا يعني المهرجان مجرد اختيار أفلام ومشاهدتها، بل أن يخيم المُشاهد في الصالة، وينقطع عن العالم لمشاهدتها”.
هذا العام، يحتفي مهرجان السينما الأوروبية في بيروت بعيده الثلاثين. مرّت ثلاثة عقود مذ وصلت هذه التظاهرة الثقافية إلى لبنان لتسهم في بناء ملامح المدينة الخارجة لتوها من حرب دامت 15 سنة، واستنزفت كل شيء. علماً أن الكثير من النشاطات السينمائية المتقطعة كانت تُعقد حتى تحت القصف، خصوصاً في المناطق التي تمعن بسلام نسبي.
كانت الحاجة للمشاهدة والمعرفة ملحة، والفضول كبير والمتاح قليل. في ظلّ مشروع النهوض بالبلاد المهموم بالحجر قبل البشر، استطاعت بعثة المفوضية الأوروبية في لبنان، بمساعدة السفارات، ردم الهوة بين المطلوب والمتوافر، فبنت عاماً بعد عام قاعدة جماهيرية التفّت حول موعد سينمائي ثابت استمر لسنوات بلا توقف، قبل أن تتيح له الأزمات اللبنانية المتراكمة، فيعود هذا العام.
خلافاً للكثير من المهرجانات اللبنانية التي رفعت شعارات كبيرة وانتهت بالفشل، أبرزها “مهرجان بيروت الدولي” السيئ السمعة، فإن مهرجان السينما الأوروبية جاء بلا ادعاء، بلا شعارات فضفاضة، بلا بهرجة ووعود كاذبة. هذا كله في عاصمة كانت تُعرض فيها قبل الحرب، أفلام “صعبة” تجارياً على أكثر الشاشات شعبيةً، ما حولها حالة فريدة في المنطقة، ولا تزال تقاوم للحفاظ على بعض من خصوصيتها في هذا المجال، على رغم كل ما يحيط بها من ظروف معاكسة ومخططات تسعى إلى تبديل هويتها.
طوال التسعينيات وأولى سنوات الألفية الجديدة، شاهدنا في مهرجان السينما الأوروبية أكثر من 700 فيلم أوروبي، تنتمي إلى كافة التيارات والانتماءات واللغات والثقافات والاتجاهات. في هذه الصالات، تكوّن جزء من وعي الجيل الذي ولد خلال الحرب وكان في مطلع عشرينياته عندما بدأ هذا الحدث. بعضنا، الوافد حديثاً إلى حب الشاشة، انتقل من كونه يشاهد الأفلام بسطحية إلى القراءة عنها بعد مشاهدتها. هكذا تعرفنا إلى الأخوين داردين وروبرتو بينيني وجاك أوديار وماركو بيللوكيو ولارس فون ترير وبدرو ألمودوفار وكن لوتش، وكل الذين تحولوا في ما بعد إلى أساطير حيّة.
حكاية مهرجان طرابلس ومنطلقاته وأهدافه مختلفة تماماً. فهو يأخذ من مدينة طرابلس، أكبر المدن حجماً بعد العاصمة، المعروفة في كونها واحدة من أفقر المدن المطلة على البحر الأبيض المتوسط، مسرحاً لحدث سينمائي محدود الأهمية والتأثير، مع أنه يُعقد هذا العام للمرة العاشرة. موازنته الضئيلة وبُعده عن مركز الثقافة بيروت، وطموحه الذي لا يتجاوز إطار الإتيان ببعض الأفلام وعرضها، هذا كله حال دون خروجه من دائرة المحلية، خصوصاً أنه لم يثبت أيضاً على موعد انعقاد واحد، بسبب الوضع غير المستقر للمدينة وللبلاد عموماً.
المهرجان حلم حقّقه إلياس خلاط، ابن طرابلس، طامحاً إلى موضعة مسقطه الذي يعاني من الانغلاق الديني والتعصّب والأمية والفقر، على خريطة السينما، لكن مخططه هذا لم يأتِ بنتيجة ملموسة بعد مرور عقد على الشروع به. أسباب كثيرة دفعته إلى هذه المبادرة الثقافية: تراجع مخيف للذوق العام في طرابلس وانعدام المشاريع الانمائية والتهميش الرسمي… النيات حسنة، لكن البيئة صعبة والظروف معاكسة والإمكانات قليلة والاهتمام الشعبي بالسينما ليس كما الحال في بيروت.
خلف الواقع بالشكل الذي هو عليه اليوم في طرابلس، هناك واقع آخر سقط في النسيان، ويعرفه جيداً جيل الستينيات والسبعينيات، وهو أن مدينة طرابلس كانت مزدحمة بصالات السينما في زمن مضى، لكن مع الوقت أغلقت أبوابها واحدة تلو الأخرى، بعدما شهدت المدينة خضّات عدة، على فترات متباعدة، أخطرها سيطرة “حركة التوحيد الإسلامي” التي بسطت نفوذها على طرابلس وأعلنتها إمارة إسلامية، ممّا فرض إقفال العديد من الصالات. نتجت من هذا، حال من التقوقع جعل الكثيرين يغادرون المدينة. اليوم، صالات السينما القديمة التي كانت يوماً الواجهة الحضارية للمدينة، انهارت على مرأى من روادها السابقين، لتتحول إلى أماكن يسكنها العفن والذكريات، وتعلو جدرانها الخارجية صور الزعامات الطائفية، وهي للأسف صورة رمزية عن لبنان الحالي.
اندبندنت