الذكاء الاصطناعي بين الطرافة والجدية: أوهام استعادة حليم وأم كلثوم وكتابة قصيدة آليّة!
بين الطرافة والجدية، يتحرك في الآونة الأخيرة مؤشر الاهتمام بالذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتنوعة، وبالأخص ما يتعلق بالإبداع الآلي. وهذا الالتفات المكثف إلى تلك “الماكينات العبقرية القادرة على منافسة البشر”، مثلما توصف، ينطوي دائمًا على قدر من الصخب والإثارة والمبالغة، وربما الرغبة في ركوب الترند، سواء كان التفاتًا جادًّا مقنّنًا، أو التفاتًا طريفًا مسرفًا في الخيال والشطحات.
ولعل هذه “الهوجة” العاصفة في تكثيف الضوء على “عالم الذكاء الاصطناعي” وكأنه كون آخر أو عصر إنساني جديد، مبعثها ما يجري على الأرض من انفلاتات شتى وممارسات متتالية خارج السيطرة في مجالات الإبداع الآلي، مع الترويج الساذج لهذه التجارب باعتبارها تعكس قفزة علمية أو تحقق نتائج فنية مذهلة.
من هذه التجليات الأخيرة مثلًا، التي شهدتها مصر، استخدام تقنية “الهولوغرام” في الحفلات الفنية، حيث تذاع التسجيلات الصوتية العادية المتاحة لأغنيات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي وغيرهم، مع استحضار صور هؤلاء المطربين الراحلين وأعضاء الفرقة الموسيقية على نحو مجسّد، حيث تسمح تلك التقنية البصرية بتجسيم الأشخاص الطبيعيين في المشهد بالأبعاد الثلاثية، عبر الموجات الضوئية. ومن ثم، فقد دأبت دور الأوبرا والمسارح على الإعلان عن حفلات جديدة يحييها العندليب الأسمر وكوكب الشرق، والأمر كله لا يتخطى المزحة الثقيلة لمواراة خيبات اللحظة الراهنة.
وتمددت التجارب إلى فضاءات أكثر مرونة، وأكثر لزوجة في الوقت ذاته، وذلك باستعمال الذكاء الاصطناعي في الألاعيب والهندسات الصوتية، بحيث يجري تركيب المنطوقات الحَرْفية الخاصة بالمطربين الراحلين وتحريكها والاشتغال عليها، ليؤدي هؤلاء المطربون بأصواتهم المستدعاة أغنيات افتراضية جديدة لم يغنّوها من قبل، وليست من أعمالهم أصلًا.
وبالرغم من أن هذه التقنية لم تستحضر أصوات المطربين الغائبين بالجودة المطلوبة ولا بدرجة النقاء اللائقة، فإن هذه التجارب الممسوخة لقيت تفاعلًا كبيرًا من جمهور المتابعين، فقط لأنهم متعطشون إلى عمالقة الطرب وزمن الفن الجميل، في واقع لم يعد فيه غير الجدب والإفلاس واللهاث خلف التقليد الأجوف. ومن تلك المحاولات الباهتة مجموعة أغاني عمرو دياب بصوت عبد الحليم حافظ على اليوتيوب، التي حققت عشرات الآلاف من المشاهدات، وهي نموذج حيّ للاستخفاف والرداءة وسوء التقدير.
وإذا كان هناك بعض العذر من الممكن التماسه لهؤلاء الهواة من المهندسين والتقنيين ممن يصمّمون هذه التجارب، على سبيل الشهرة أو “الترويش”، كأولئك الذين اسحتضروا شبح “العندليب” في أغنيات “الهضبة” أو حتى في أغنيات المهرجانات، فإنه يصعب قبول إقدام الموسيقيين والمختصّين على هذا العبث، والانخراط فيه، والتحدث عنه كأنه إنجاز. ولذلك، فقد بلغت درجة الشذوذ أقصاها في ما طرحه المطرب والملحّن عمرو مصطفى من تركيبه صوت أم كلثوم عبر تقنية الذكاء الاصطناعي على أغنيته “أفتكر لك إيه”. والأكثر إدهاشًا من هذا الاجتراء المتنطّع أن فاعله لا يخجل ولا يتوارى منه، بل يفتخر به، مصرّحًا بأنه في ذروة السعادة، لأنه كان يتمنى أن تغنّي كوكب الشرق من ألحانه، وها هي قد حققت حلمه في صيف 2023!
وإلى جانب الانتقادات الفنية والأكاديمية اللاذعة لهذه المحاولات الهشة “التي أهدرت قيمة الفن ومعناه”، فإن ورثة كل من أم كلثوم وعبد الحليم حافظ قد هددوا باتخاذ الإجراءات القانونية ضد هذه التجارب التي تشوّه أصالة الإبداع ونصاعته وحساسيته ونبضه، وتسيء إلى تراث سيدة الغناء العربي، ورصيد العندليب الأسمر في الآذان والقلوب، وبلغت هذه التهديدات درجة عالية من التصعيد، للقضاء على الظاهرة قبل أن تستفحل.
ومن الصور الأخرى لتضخيم تبعات الذكاء الاصطناعي وتهويل تأثيره على حقول الإبداع، ما أثارته الكثير من النقابات الفنية والمهنية واتحادات الناشرين وغيرها من المؤسسات المعنية بالفنون والآداب، من تخوفّات من موت المؤلف البشري أو تحجيم دوره المستقبلي، وما أطلقته من تحذيرات من فوضى حقوق الملكية، وما نسجته من توقعات ومطالب بشأن حتمية ظهور قوانين وتشريعات وبروتوكولات جديدة تنظّم شؤون الإبداع وعقود النشر والترويج والتسويق وغيرها في عالم الروبوتات المبدعين، إلى آخر هذه الأمور الهلامية. وتطرق البعض إلى مناقشة أبجديات حصول المبدع الآلي على حقوقه المادية كاملة غير منقوصة، وذلك في حالة التحقق من أن الماكينة بالفعل هي صاحبة الحقوق المعنوية والملكية الفكرية للمصنف الإبداعي!
وبعيدًا عن هذه الخيالات والتهويمات، فالحقيقة أن استخدام الذكاء الاصطناعي أو الإبداع الآلي في الفنون والآداب هو ليس بالأمر الجديد ولا الخارق ولا المؤرّق، كما أنه ليس بالأمر الفاشل أيضًا على طول الخط. ولكنّ نجاحه يخضع لضوابط وشروط، من أهمّها ضرورة استيعاب أن ذكاء الماكينات هو عامل تنسيقي وتجهيزي وهيكلي مساعد ليس أكثر، في منظومة العملية الإبداعية المعقدة، التي ستظل إنسانية في طبيعتها وسيولتها أبد الدهر، مهما بلغت الآلات والروبوتات من تطوّر وقدرة على تشبيك البيانات ووضعها في سياقات مغايرة.
إن التعريف الأولي للإبداع الإنساني يتحرك في اتجاه مضاد تمامًا للتعريف الأولي للذكاء الاصطناعي وبرمجياته. فالإبداع الحقيقي يحيل إلى كسر أفق التوقع، والنسج على غير منوال، ومخالفة السائد النمطي المقولب، وطرح ما هو مولّد للدهشة ومختلف في جوهره وإشعاعاته عن محصّلة المعطيات الجاهزة والمُعَدّة سلفًا. وعلى العكس، فإن التعريف الأولي لبرمجيات الذكاء الاصطناعي في أنضج صورها يحيل إلى إعداد نتائج منطقية متزنة في ضوء مقدمات بعينها، بمعنى إجادة ترتيب المعلومات وإعادة صياغتها رياضيًّا ومدرسيًّا في إطار نموذجي محدد، غير مُفَاجِئ. ومهما بدا هذا الإطار متسعًا وديناميًّا، فلا يمكن أن يصير فضاء إبداعيًّا لا نهائيًّا ومطلقًا.
وحتى متون العلوم الحاسوبية التخصصية نفسها، فإنها تبلور الذكاء الاصطناعي تحت مظلة انتهاج سلوكيات وخصائص معيّنة تحاول محاكاة القدرات البشرية في التعلم والاستنتاج وبناء ردود أفعال ذكية، من خلال القدرة النظامية على تفسير البيانات ومعالجة الرموز والتعامل معها بشكل صحيح. أما الإبداع، فتدور تعريفاته العلمية والفلسفية حول التعاطي مع الأشياء والأمور المألوفة بطرق غريبة وغير مألوفة، واستعمال الخيال الجامح والمبادرات الشخصية للانشقاق عن التسلسل الاعتيادي في التفكير من أجل رؤية ما لا يراه الآخرون. ومثل هذا الإبداع يستلزم، إلى جانب العقل والإمكانات الذهنية، وجود فطرة نقية، وطاقة حيوية متدفقة، ومهارات إنسانية لا محدودة، وومضات داخلية لامعة، ليتمكن المبدع دائمًا من حل المشكلات بأساليب مدهشة، طازجة وجاذبة، وابتداع وسائل متفردة تضيف إلى حصيلة الحصاد الإنساني عبر التاريخ.
وهكذا، فإن أقصى ما يطمح إليه الذكاء الاصطناعي في مجالات التأليف والإبداعات الآلية المتنوعة، لا يخرج عن توفير أوعية ومسارات وقوالب ومقترحات وعناوين وخطوط عريضة وأنساق وتوزيعات وما إلى ذلك من العوامل المساعدة، التي قد يحتاج إليها المبدعون من البشر، في بعض خطوات العملية الإبداعية، ومراحلها المتشابكة.
ولربما يفيد الذكاء الاصطناعي في التوزيع الموسيقي مثلًا، والمناظير والمعايير والتوازنات اللونية التشكيلية، والتقاط صورة فوتوغرافية صحيحة وناجحة، ووضع أفكار بحث علمي أو رسالة جامعية، وترجمة نص ترجمة أوّلية قاموسية، لكنه لن يؤلف السيمفونية المتجاوزة، ولن يرسم اللوحة المؤثرة، ولن يلتقط الصورة الفوتوغرافية المعبّرة عن التفاصيل والجوّانيات، ولن يُعدّ الأطروحة المنهجية الكاشفة، ولن يُترجم النص الصعب المركّب ترجمة واضحة كاملة.
أما أن يرقى الذكاء الاصطناعي إلى أن يُسطّر رواية أو مسرحية، فكرة وموضوعًا وشخوصًا ولغة وتناميًا دراميًّا، أو أن يؤلف قصيدة طليعية تُحدث حراكًا في المشهد الشعري برؤاها وصورها ومشاهدها وإيقاعها الحروفي والنفسي واستلابها الحواسّ وقبضها على الوعي واللاوعي، فهذا هو المستحيل بالتأكيد. وإن المحاولات البائسة المتكررة في هذا المضمار قد أنتجت ما هو أضعف وأكثر ركاكة بكثير من ترجمة جوجل المضحكة مثلًا لعمل أدبي أو فلسفي أو علمي، ثري وعميق ورصين. وأخيرًا، فإن مخرجات الإبداع الآلي كردود أفعال قياسية، ليس بمقدورها أبدًا صناعة الفعل القيادي أو امتلاك وجهة نظر ثاقبة أو تبنّي قضية جمالية أو مجتمعية، وهذا ما يُبقي الإبداع الإنساني حكرًا على الإنسان.
شريف الشافعي- المدن