الإجماع المسيحي تحوّل إلى ورقة ضاغطة… وفرصة أخيرة للحل!
فيما تحمل زيارة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان عنوان الفرصة الأخيرة، حوّلت القوى المسيحية تفاهمها إلى ورقة ضغط خارجي على طاولة العواصم المعنية بلبنان، في وجه إصرار حزب الله على خريطة طريق واحدة. لكنّ العبرة تبقى في مرحلة ما بعد التفاهم…
«الفرصة الأخيرة»، كما يقول مطّلعون على جولة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، تضع المسؤولين اللبنانيين على كلّ مستوياتهم أمام مسؤولياتهم. فالموفد الفرنسي لم يأتِ حاملاً عصا سحرية للحل، لكن زيارته تعكس، في طياتها وفي الشكل الذي اتخذته اللقاءات التي عقدها، حقيقة أن ما يقوم به هو الفرصة الأخيرة للعودة إلى المسلّمات الأولى. صحيح أن هناك محاولة لتجاوز مغزى القلق الفرنسي والأوروبي على وضع لبنان، لكن الصحيح أيضاً أنها المرة الأولى منذ سنوات يستعاد مشهد اصطفاف سياسي – طائفي، بدأ يفرض إيقاعه على عواصم عربية وغربية معنية بالوضع اللبناني.
ليست المرة الأولى التي يحصل فيها شغور رئاسي، والمرة الأخيرة التي سبقت انتخاب الرئيس ميشال عون استمرت سنتين ونصف سنة. ومع كل الاهتمام الذي حظي به لبنان في تلك المرحلة، لم يتحوّل إلى هاجس مقلق كما يحصل اليوم، ما يضع الأطراف المعنية أمام مقاربة الأسباب الموجبة التي تجعل من الشغور الحالي مصدر قلق على مستقبل لبنان.
في محصّلة المعطيات والنقاشات بين قوى لبنانية ودوائر غربية، هناك مجموعة أسباب ومعطيات تفرض نفسها. من البديهي أن الشغور الحالي يعقب أحداثاً خطرة أعادت لبنان إلى دائرة الضوء الخارجي، بدءاً من انفجار المرفأ، وقبله تظاهرات 17 تشرين وبعدهما الانهيار الاقتصادي والمالي، وهذه الوقائع لا تمتّ بصلة إلى تلك التي سبقت انتخاب عون، وجعلت البلد أكثر قابلية للتأقلم مع الشغور. لكن كل ذلك، على أهميته، كان يمكن التعامل معه ببرنامج عملي واضح، لولا الخشية من أن الشغور الحالي مقصود لأسباب واقعية، تعبّر عنها القوى السياسية بتفاصيل يومية. وما استجدّ من تقاطع مسيحي جعل من محاولة فرض مرشح رئاسي على القوى المسيحية الرئيسية أمراً متداولاً بقوة على طاولة اللجنة الخماسية وعواصم على تنسيق كامل معها، عربياً وأوروبياً.
هناك من يتحدّث لبنانياً عن أن الحرد الذي أعطي لرئيس الجمهورية في اتفاق الطائف في ممارسة صلاحياته، تطبقه القوى المسيحية اليوم في حردها الشامل، وتقاطعها «الإيجابي» هذه المرة، إذ ليست المرة الأولى التي يتقاطع فيها هؤلاء كما حصل حين تقاطعت أكبر قوتين مسيحيتين، التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية، لمنع تسوية الرئيس سعد الحريري ورئيس تيار المردة سليمان فرنجية. وفيما اعتبرته بعض القوى تقاطعاً سلبياً، تعامل معه حزب الله على أنه إيجابي، أدى إلى إيصال مرشحه إلى قصر بعبدا. أما التقاطع الثاني الإيجابي، فتمثل في قانون الانتخاب الذي أعطى القوى المسيحية العدد المناسب من النواب، ما أعطى وزناً لتفاهمهم هذه المرة، تُرجم في منع انتخاب مرشح الثنائي الشيعي.
ورغم أن التفاهم الأول، أتى بإحدى الشخصيات الأكثر حضوراً وتمثيلاً، فإن الالتقاء الحالي تم على شخصية لا تمثل الوزن السياسي الذي كان يُفترض. ومع ذلك، فإن العبرة تكمن في أن التفاهم تم، بغضّ النظر عن الشخصية المختارة. ومع ذلك أراد الثنائي سحب هذه الورقة من القوى المسيحية لمصلحة شخصية لا تتمتع بالإجماع المسيحي اللازم حولها، يفرضها الثنائي تحت عنوان تسليم القوى المسيحية بانتماء فرنجية إلى نادي الزعماء الأربعة. ما فعلته هذه القوى في الوقت الراهن أنها حوّلت هذه الورقة إلى عنوان لمعركة تعدّت الخلافات الداخلية للمرة الأولى منذ سنوات، ما حرّك الفاتيكان وعواصم غربية وأعضاء في جامعة الدول العربية. وهذا ما تعوّل عليه هذه القوى في استمرارية وضع هذه المعادلة على طاولة أي تحرك خارجي، أو في ترتيب إقليمي يكون لبنان واحداً من بنوده، بعدما نجحت في سحب تغطية فرنسا لتسوية ترفضها رئيساً للجمهورية ورئيساً للحكومة نفى انتماءه إلى ما كانت تمثله 14 آذار.
الاصطفاف السياسي – الطائفي بدأ يفرض إيقاعه على عواصم عربية وغربية
وإذا كانت هذه القوى تعبر علانية عن خوفها من أن يكون الشغور طويلاً، فإنها تضع أمام الرأي العام الخارجي مخاوف جدية من أنه يبدأ برئاسة الجمهورية ويستكمل بحاكمية مصرف لبنان ومن ثم بشغور مركز قائد الجيش، أي في المواقع المارونية الأولى، ما يؤدي في غياب القوى السنية وتحوّل الحكومة إلى أداة في يد الثنائي، إلى قبض الأخير على الحكم. وما تقوله هذه القوى في نقاشاتها مع الخارج هو أن الشغور الذي تخشى منه يتبلور مع أداء الحكومة. فقد بادر رئيس حزب القوات بعد اجتماع الحكومة إلى تفنيد عدم دستورية اجتماعاتها، بعد مرحلة مهادنة مع الرئيس نجيب ميقاتي، كما يردّد التيار دوماً. وما تقوله القوى الثلاث هو أن حكومة تصريف الأعمال غير الحائزة على ثقة مجلس النواب، لا تتمتع بجزء يسير من صلاحيات حكومة الرئيس تمام سلام، ومع ذلك فإنها تتجاوز في أدائها ما قامت به حكومة سلام بأشواط. من هنا كان لافتاً إقدامها عشية جلسة انتخاب الرئيس، بكل ما حملته يومها من مخاوف، على الانعقاد وكأن شيئاً لم يكن. وكرّرت اجتماعاتها، وستكررها أكثر، وتطرح مجدداً تعيينات المجلس العسكري كواحدة من الخطوات النافرة. وهذا الاستسهال المتعلق بشغور المواقع أو بالتعيينات قد يؤدي لاحقاً إلى ترجمة ما كان يلوح به سابقاً باستعادة نص الطائف المتعلق بمناصفة وظائف الفئة الأولى بين المسيحيين والمسلمين «من دون تخصيص أي وظيفة لأي طائفة».
تحوّل القوى المسيحية إذاً الإجماع المسيحي إلى ورقة ضاغطة، وتستفيد من تموضع الحزب التقدمي الاشتراكي إلى جانبها لأسبابه المختلفة، فيعطيها حصانة ويضاعف من تمسكها بموقفها. لكن الإشكالية تبقى بالنسبة إليها أن التقاطع لم ينتقل بعد إلى إطار تنسيقي للخطوات المقبلة. والتعويل على الضغط الخارجي قد لا يؤتي ثماره مع حزب الله، الذي لا يزال مصراً على خريطة طريق واحدة لا غير، ترفضها هذه القوى. فعناوين الفيدرالية واللامركزية المالية والإدارية الموسّعة والخروج من الدولة تحتاج إلى برمجة عملية، لا يبدو أن أحداً اليوم لديه القدرة على السير بها، ولا تجد تغطية خارجية لها. ما يعني أن لعبة عض الأصابع في الشغور ستكون صعبة وحادة، وحزب الله، كما يرى معارضوه، أكثر جدية من أي وقت مضى في خوضها من دون حرج، ولو لوقت طويل.
هيام القصيفي- الاخبار