التعذّر الرئاسي اللبناني: أبعد من التسوَوِية العالقة!
لم تكفِ خسارة مرشّح حزب الله سليمان فرنجية في الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية اللبنانية المعقودة في البرلمان في بيروت في 14 حزيران/يونيو لسحبه من السباق الرئاسي. ولم يكفِ تقدّم منافسه جهاد أزعور، المدعوم من الكتل المسيحية الكبرى ومن كتلة وليد جنبلاط ومن عددٍ من النواب المستقلّين والمعارضين، لإبقائه في السباق إياه. ذلك أن الفارق بالأصوات لم يكن كبيراً (8 أصوات)، والأهم أن أزعور لم يتخطّ عتبة الـ64 صوتاً التي كانت لِتُظهرَ أنه لولا تعطيل حزب الله ورئيس البرلمان للنصاب في الدورة الثانية (حيث الأكثرية البسيطة تكفي للفوز)، لحُسِمت النتيجة.
والحقّ أن التعطيل كان متوقّعاً، بعد إحدى عشرة جلسة انتخابية في الأشهر السبعة الماضية تعذّر خلالها انتخاب رئيس، وبعد تبدّل التحالفات السياسية (ولَو مؤقّتاً) وسعي الأطراف جميعها إلى تحسين شروطها قبل جولة مفاوضات وترشيحات جديدة.
فلماذا استمرار التعطيل في ظلّ نتيجة لم تفضِ إلى تفوّق حاسم لأحد؟ وكيف يمكن تفسير التعذّر الرئاسي والاستعصاء السياسي في البلد ككلّ رغم الانهيار الاقتصادي والمالي المُتطلّب إعادة تشكيلٍ للسلطة التنفيذية على أمل الحصول على مساعدات دولية؟
في الحسابات وموازين القوى الراهنة
يفيد للإجابة عن الأسئلة المطروحة التذكير بثلاثة أمور.
الأوّل أن حزب الله، رغم قوّته وسلاحه ودعم إيران الكبير له، لا يعتبر رئاسة الجمهورية شأناً صُوريّاً يمكن تركه لديناميّات سياسية لبنانية تراعي موازين القوى داخل الطوائف، وفق مبدأ تمثيل كلّ منها في المنصب الأعلى المُنتدَب لها في الدولة. فللرئاسة شأنٌ في السياسة الخارجية وفي السياسة الدفاعية وفي العلاقة بالجيش والقوى الأمنية، وهي ملفّات لا يقبل الحزب بخروجها عن نطاق سيطرته أو على الأقل «مَونَته». وهي تختلف بهذا عن تسيير الشؤون اليومية في الدولة التي يمكن للحكومة والإدارات العامة القيام بها والتي يُؤْثِر الحزبُ البقاء على مسافة من بعض قطاعاتها الخدماتية كي يدّعي محدوديةَ مسؤوليةٍ في تدهور أحوالها. بهذا المعنى، لا يساوم الحزب رئاسياً كما يمكن له أن يساوِم حكومياً وإدارياً.
الثاني، أن الكتل المسيحية الكبرى لم تنجح في استمالة أكثرية سنّية إلى جانبها لمواجهة الحزب الشيعي، في ظل تذرّر التمثيل السياسي السنّي عقب أفول الحريرية. أدّى ذلك إلى توزّع تصويت النوّاب السنّة على المرشّحَيْن وعلى خيارات «بديلة» من خارج حسابات الجلسة، ممّا قلّص الفارق في النتيجة وحال دون تظهير حالة اعتراض نيابي (وطوائفي) كبير على مرشّح حزب الله بما قد يدفع الحزب إلى التراجع عن دعمه.
والأمر الثالث، أن النواب المعارضين والمستقلّين، ومن ضمنهم نواب الكتلة التي سُمّيت بـ«التغييرية»، انقسموا إلى ثلاث مجموعات، وفوّتوا فرصة إظهار أن لهم في الاستحقاقات الكبرى وفي ظل الانقسامات العامودية الحادة قدرةً على ترجيح نتيجةٍ وفق دفتر شروط وأولويّات يضعونها لأنفسهم، ومن دون التحالف في ما هو أبعد من الاستحقاقات المذكورة مع أي من المعسكرات الطائفية. وبدا أن عدداً من النواب هؤلاء التحقوا من دون «ممانعة» أو مسافة معلنةٍ بخيار التصويت لأزعور، وأن عدداً آخر آثر إخراج نفسه من المعادلة الجدّية للجلسة مسمّياً مرشّحاً ثالثاً (ينطبق عليه إلى حدّ كبير ما قالوه عن أزعور وعدّوه كافياً لرفض التصويت له)، في حين اكتفى عددٌ أخير بالتصويت لأزعور، من دون حماسة ومن دون شرح واضح لأسباب التصويت الصعب (والصائب) المذكور.
ويمكن القول هنا، إن التحفّظ على ماضي أزعور ودوره أمر مشروع من قِبل من يُنادي بالتغيير والإصلاح، لكنّه لا يكفي في ظلّ شروط اللعبة السياسية اللبنانية التي انخرط فيها المنادون منذ لحظة دخولهم إلى البرلمان وفق قانون الانتخاب الطائفي. كما أن معرفتهم باستحالة وصول أزعور إلى الرئاسة لِحتمية تعطيل حزب الله للنصاب في دورة انتخابية ثانية، كانت تكفي للتصويت له، على أساس أن الأولوية في الدورة الأولى المتاحة هي إخراج فرنجية نهائياً من السباق، لما يمثّله من تجسيد لأكثر ما في الطبقة السياسية اللبنانية من زبائنية وفظاظة سلوك، والأخطر، لكونه مرشّح النظام السوري أيضاً وليس حزب الله وحده. وإخراجه هذا لم يكن ليتمّ من دون حصول منافسه على ما كان لِيكفيه للفوز في دورة ثانية مستحيلة!
أبعد من التسوَوِية العالقة
على أن ما جرى للمرة الثانية عشرة (الأكثر جدّية) من تعذّر رئاسي في لبنان منذ تشرين الثاني/نوفمبر 2022، يتخطّى في دلالاتِه لحظتَه وإشكاليّاتِها. أوّلاً لأنه فكّك تحالفات وتفاهمات وأظهر هشاشة خيارات ومواقف لا طائل منها. وثانياً لأنه أكّد مرّة جديدة أن مقاربة حزب الله للحقل السياسي اللبناني التي تقوم على معادلة الفرض في أمور والتعطيل في أمور أُخرى لا تشبه أي مقاربة طائفية أو مذهبية حليفة أو مناهضة. فهي ترجمة لفائض قوّة ولغرور قوّة يصعب فصلهما عن ملكيّة الحزب للسلاح ولترسانة التخوين والترهيب والترغيب المصاحبة له. وإذا كان صحيحاً القول بتمنّي عدد من خصومه التشبّه به وغيظهم منه لعدم قدرتهم على امتلاك ما يمتلك، فمن غير الصحيح اعتبار ذلك كافياً لحجب أولويات ولعدم تحديد مواقف موضعية وتقاطعات ظرفية على أساسها.
بموازاة كلّ ذلك، يُفيد النظر إلى استعصاء الانتخاب الرئاسي وتكرار حالة الفراغ في رأس الهرم اللبناني بوصفه مؤشّراً على عمق أزمة «التوافقية» التي صارت «تعطيلية» أكثر منها «تسييرية» لشؤون البلد. فانتخابات الرئاسة في لبنان لم تعرف التئاماً «طبيعياً» لها منذ العام 1982، حين انتُخب خلال الاجتياح الإسرائيلي رئيسٌ ثم اغتيل بعد أسابيع، ليعُوَّض الأمر بانتخاب أخيه. وبانتهاء ولاية الأخير بعد ستّ سنوات لم يجرِ انتخاب خلفٍ له وقامت في البلد المنقسم حربياً حكومتان. وحين جرت الانتخابات بعد توقيع اتفاق «الطائف» العام 1989 في ظلّ الهيمنة السورية هذه المرّة، اغتيل الرئيس «التوافقي» المُنتخب ليأتي بعده رئيسٌ آخر بشروط سياسية وضعها حافظ الأسد.
وفي العام 1995 عُدّل الدستور للسماح بتمديد ولاية الرئيس إياه، ثمّ جرى فرض تعديلٍ جديد للدستور العام 1998 للإتيان بقائد الجيش رئيساً. وفي العام 2004، عُدّل الدستور مرّة ثالثةً بأمر سوري لتمديد ولاية الرئيس ودخل لبنان في نفق مواجهات واغتيالات لم يُبدّل الانسحاب القسريّ للجيش السوري الذي تبعها من حال تأزّم النظام. فشهد العام 2007 تعذّراً لانتخاب رئيس إلى أن أتاح تعديلٌ رابع للدستور انتخابَ قائد ثانٍ للجيش العام 2008 عقب اتّفاق «الدوحة» الذي تلا اجتياح حزب الله العسكري لبيروت وإسقاطه حكومة فؤاد السنيورة.
وبعد انقضاء الولاية الرئاسية شغر المنصب لعامين كاملين، تعطّل خلالهما البرلمان قبل أن يمدّد لنفسه، إلى أن سمح تفاهم جديد على تقاسم الحصص أواخر العام 2016 بانتخاب رئيس، كان نفسه عسكرياً مرشّحاً للرئاسة قبل أربعة عقود! وليس من المبالغة القول إن عهد الرئيس الأخير هذا، ميشال عون، كان الأسوأ في تاريخ لبنان، إذ شهد أزمة اقتصادية وانهياراً مالياً لم يسبق لهما مثيل، وشهد انتفاضة شعبية قُمِعت بعنف، وشهد انفجار مرفأ بيروت وهجرة عشرات الآلاف من اللبنانيين، وشهد تردّياً غير مسبوق للخدمات، صاحبته فضائح وحملاتُ عنصريةٍ وكراهية ضد اللاجئين بهدف تحميلهم مسؤولية الفشل وتبعاته جميعها.
يُشير ما وردَ إذاً إلى تحوّل الاستعصاء الرئاسي إلى سمةٍ من سمات النظام اللبناني العاجز عن التعامل مع أزماته أو حلّها، حتى وهو يُنازع لأسباب اقتصادية وبسبب سطوة طرف تفيض قوّته عليه وتعطّل قسماً من آليات تشكيل السلطة وتوزيع صلاحيّاته داخله.
ويُشير ما ورد كذلك إلى أن أزمة الحكم ستستمرّ لأسباب ذاتية وموضوعية، بمعزل عن تسوية هنا أو فضّ نزاع هناك، وبمعزل أيضاً عن مشروطيّة المساعدات الدولية، التي يريد جميع الأطراف الداخليّين تحسين تموضعاتهم لتوسيع هوامش «الاستفادة» يوماً منها.
زياد ماجد- القدس العربي