خاص: “أنا لست مُشرّداً.. بل أنا لبناني عربي أصيل” و”صديق الكتب” !

“أنا لست مُشرّداً.. بل أنا لبناني عربي أصيل.. وأُقيم هنا بملء إرادتي”.. عبارة يُصرُّ عليها المواطن اللبناني محمد اسماعيل المُغربي، الذي جار عليه زمانه، فتحوّل من مهندس معماري حاصل على شهادته العالية من كلية الهندسة المدنية بجامعة القاهرة، إلى مشرّد أو كما يُحب أنْ يقول “صديق الكتب”.

مُحاط بالمئات من الكتب، من كل الأنواع، أدب، تاريخ، علوم، قانون، ومختلف لغات العالم، وداخل كوخ خشبي، وبعيداً عن أي تكنولوجيا أو تطوّر ولو حتى مجردة “لمبة” للإنارة.. بل عيشة لا تمت إلى مقومات الحياة الإنسانية بأي صلة، وتنسلخ عن التطور العصر ومتغيرات القرن الحادي والعشرين..

هذا المكان جميل
يعيش المُغربي تحت “جسر الفيات” في منطقة كورنيش النهر في بيروت، مؤكداً أن “هذا المكان جميل، ولا أريد أن أفارقه”، فالرجل الذي تظنّه هارب من كتب التاريخ أو العصور الوسطى.. رث الهيئة وكث الشعر.. ووسخ الثياب.. أخبرنا بأنه من مواليد العام 1943، في منطقة كورنيش المزرعة التي تبعد مسافة عدّة شوارع من حيث تواجده.

لهجة لبنانية بلكنة مصرية
وكشف بلهجته اللبنانية المطعّمة باللكنة المصرية، تأثّراً بأعوام دراسته للهندسة في العاصمة المصرية القاهرة، أن جذوره من بلدة كفرشوبا الجنوبية السنية، ويُصرُّ على “السنية”، وإذ عاد بالذاكرة تحدث عن أنه بعد تخرّجه من جامعة القاهرة “باش مهندس” بتقدير جيد جداً، درّس لمدة 6 سنوات “قانون العمارة الحديثة”، كما عمل مُحاضِراً في الجامعة القانونية، إضافة إلى عمله بالتجارة الحرة خلال فترات متفاوتة من حياته.

بيع الكتب مصدر رزقي
سألناه عن الأسباب التي أودت به إلى هذه الحال، فأجاب بسؤال: “ومما أشكو؟، أعيش وآكل وأتابع حياتي كأي شخص آخر”، موضحاً أن مصدر رزقه هو بيع الكتب، لأنه ليس بحاجة إلى مساعدة مادية، لا من جمعيات ولا حتى مؤسّسات تعطف عليه، بل إلى كلمة نبيلة، فالكلمة الطيبة بالنسبة إليه تجعل من المرء إنساناً، والكلمة الشريرة تقتله.

من سجين إلى بائع كتب
أما فكرة جمع الكتب، فجالت في بال المُغربي، بعدما خرج من السجن في العام 2018، إثر سنة و3 أشهر أمضاها دون أن يرتكب أي جرم، بل “نكايات” – كما قال، مستدركاً: بما أن الدخول إلى السجن لم يكن بتهمة، فالخروج منه من المستحيل أن يكون دون أوراق رسمية، لذلك جرى ترتيب ملف، وختمه القاضي بحكم البراءة، على حد قوله.

وجدتُ إنسانيتي
وتابع بأنه حاول العودة إلى منزله، فمُنع من ذلك، ليكتشف أن مَنْ سجونه هم الطامعون بأرضه، فما كان أمامه إلا اللجوء إلى العراء في أسفل الجسر، ورغم صعوبة العيش هناك، أكد أنه وجد نفسه كإنسان في هذا المكان أكثر من أي مكان آخر.

3 أبناء.. ونقطة عالسطر
وبعد محاولات عديدة للاستفسار عن أسرته، كشف أن لديه 3 أبناء، شابان خارج البلد وفتاة متزوجة، وأوضاعهم المادية ميسورة، أما زوجته فمتوفاة، رافضاً أن يدخل في أي تفاصيل أخرى سوى أنه مُقيم تحت الجسر لأنه حر بما يُريد، والمكان خيار اختاره ليختتم حياته بين الأوراق، وأبناؤه عرضوا عليه مغادرة البلد والعيش معهم في الخارج، لكنه آثر البقاء والموت في الوطن.

لا للتكنولوجيا
المغربي ورغم أنه مهندس معماري، ما يعني أن مهنته الأساسية منبعها العلوم والحسابات، فإنّه لا يؤمن بدنيا التكنولوجيا، بل يعيش في عالم الأوراق والحبر، لا يحتاج من التطور إلا إلى ضوء صغير يُنير على البطارية، عتمة ليله وسط مكتبته المبعثرة في الهواء الطلق، والتي يقصدها محبو الروايات والباحثون عن كتب نادرة، إضافة إلى الفضوليين.

الكتاب لا يُقدّر بثمن
يمضي أيامه في مطالعة الكتب وترتيبها، وعلى وجهه ابتسامة دائمة، رافضاً “تسعير” الكتب، لأنّه على ما يؤكد “الكتاب لا يُقدّر بثمن، ولأنّ القراءة تجعل المواطن إنساناً شريفاً ومثقّفاً، وبالثقافة نكون، وبغير الثقافة لا نكون”.

أما في حال لم يكن الشخص يملك المال، فإمكانه أخذ ما يحتاج إليه مجاناً، لأن الكتاب بالنسبة إليه غذاء روح، وثروة ثمينة للعقل، ولا يمكن حجبها عن طالبها، كاشفاً أن مصدر كتبه كان بداية من هنا وهناك، وبعض المكتبات التي تريد التخلص من أشياء قديمة.

ثروة كبرى
وخلال تواجدنا مع المُغربي زاره أحد المشترين الذي طلب الحصول على مكتبة كاملة من الكتب القانونية، وحين سأله عن السعر رفض المُغربي التسعير، فمنحه المشتري مبلغاً مالياً بالدولار، مؤكداً أن ما أخذه من مكتب المغربي ثروة كبرى، ثمنها المادي وقيمتها المعنوية أكبر بأضعاف مما حصل عليه المُغربي.

مصدر كتبه
ولفت إلى أنه مع الوقت إذ بالأصدقاء والمعارف، وحتى الراغبين بالتخلّص من عبئها في منازلهم، ناهيك عن أنه بين الحين والآخر يقوم بزيارات إلى بعض الأماكن التي تبيع كتب رخيصة فيسعى للحصول عليها من أجل التنويع.

زعران أحرقوا ثروته المكتبية
كشف المغربي أنه ليل 20 يناير (كانون الثاني) 2022، كاد أن يفقد حياته، حين أقدم “زعران” على إضرام النيران بمكتبته، وهو داخل كوخه الخشبي، لكن العناية الإلهية وحدها أنقذته، وأبعدته عن جحيم الموت حرقاً.

وفيما سُجّل الأمر ضد مجهول، توجه وزير الثقافة اللبناني القاضي محمد وسام المرتضى إلى حيث يقيم المُغربي، واطلع على حاله، ووعد المرتضى بمساعدته، كما قدم له هدية عبارة عن مجموعة كبيرة من الكتب لإغناء مكتبته، ثم وقع له على كتاب عن المتحف اللبناني ليحتفظ به.

مصطفى شريف- مدير التحرير

مقالات ذات صلة