هل تضيع قضية تفجير مرفأ بيروت في كواليس التجاذبات بين القضاة؟

على مشارف الذكرى الثالثة لتفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس (آب) 2020، لا يزال التحقيق يراوح مكانه، فيما يرى شق واسع من اللبنانيين أن هذه القضية تجسد مثالاً واضحاً للإفلات من العقاب، وانعكاساً لسيطرة السياسيين على القضاء، من خلال تعيين شبكة واسعة من القضاة الذين يؤمنون حماية لهم عبر تسويف العدالة.

وخلال السنوات الثلاث الماضية، مر التحقيق بسلسلة عراقيل ممنهجة، عبر أكثر من 50 دعوى رد ومخاصمة الدولة، من قبل السياسيين والأمنيين الذين صدرت بحقهم مذكرات توقيف، ما أدى إلى كف يد القاضي بشكل متقطع بادئ الأمر، قبل أن يتوقف بشكل مستمر منذ حوالى عامين.

وشهد التحقيق عودة مفاجئة مع بداية العام الحالي، عبر اجتهاد قانوني اعتمده المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، إلا أن الموضوع تحول إلى “صراع” بين القضاة انتهى بإطلاق الموقوفين في القضية، وعودة إلى مسلسل التعطيل بعد أن رفع المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات دعوى انتحال صفة بحق طارق البيطار.

سجن البيطار

وبعد أربعة أشهر من الانتظار، عيّن رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود، الرئيس الأوّل لمحاكم استئناف بيروت القاضي حبيب رزق الله، قاضي تحقيق للنظر في ادعاء عويدات ضد البيطار بجرم “انتحال صفة” بتاريخ 25 يناير (كانون الثاني) 2023.

إلا أن مرجعاً في مجلس القضاء الأعلى أكد أن تعيين محقق، لا يعني عودة التحقيقات في قضية المرفأ الذي ينتظر انتهاء النزاع القانوني بين عويدات والبيطار، مشيراً إلى أنه بعد الخطوة التي قام بها عبود، يجب أن يعين مجلس القضاء الأعلى هيئة اتهامية تنظر بصوابية القرارات التي يتخذها قاضي التحقيق.

وأشار إلى أن تأخر القاضي عبود ثلاثة أشهر عن تعيين المحقق، هو بهدف انتظار عودة الهدوء بعد العاصفة غير المسبوقة التي عصفت في القضاء وكادت تؤدي إلى انقسام حاد في السلطة القضائية.

ويوضح، بأنه بات القاضي رزق الله يملك صلاحيات قاضي التحقيق بشكل مطلق، ومن المفترض أن يصدر قراره بعد التحقيق بقرار معلل، يفيد فيه ما إذا كان هناك جرم بحق البيطار، ويقدّم تقريره إلى مجلس القضاء الأعلى.

وأشار إلى أنه وبعد صدور التقرير، يصبح مجلس القضاء الأعلى أمام ثلاثة سيناريوهات وهي، تحويل البيطار إلى المجلس التأديبي، أو محاكمته في حال ثبت الادعاء بحقه، أو حفظ الملف، مشدداً على عدم وجود مهلة قانونية لإصدار القرار.

ولفت إلى أن العقوبة بحق البيطار في حال إدانته قد تصل إلى سجن لمدة سبع سنوات، وفقاً للمادة 306 في حال ثبوت الادعاء بحقه، إذ تنص تلك المادة على “الاعتقال الموقت لمدة سبع سنوات بحق من اغتصب سلطة سياسية أو عسكرية أو مدنية”.

وكان عويدات قد ادّعى على البيطار بجرم انتحال صفة محقق عدلي، على أثر الاجتهاد القانوني الذي وضعه الأخير، وأجاز لنفسه استئناف التحقيق في ملف المرفأ متخطياً عشرات دعاوى الرد المقدمة ضده والعلاقة أمام محاكم التمييز.

موقف الأهالي

أما في مقلب أهالي ضحايا تفجير المرفأ، فإن تلك الإجراءات لم تشفِ غليلهم، إذ تعبر أوساطهم عن استياء كبير مما يحصل، وخوفهم من ضياع الملف، معتبرين أن جميع القضاة يتبادلون أدوار تسويف القضية والمماطلة بهدف إدخالها في زمن النسيان، إسوة بجميع القضايا الكبرى في البلاد.

وبعد أن كان بالنسبة لمعظمهم القاضي طارق البيطار يشكل بارقة آمل في القضية، بدأ كثير منهم يشكك بتواطؤه مع القضاة الآخرين، متخوفين من أن يكون الاشتباك بين القضاة الذي حصل قبل أربعة أشهر، مؤامرة هدفها التغطية على إطلاق سراح الموقوفين في هذا الملف.

مذكرات توقيف وهمية

وفي دليل واضح على فقدان العدالة هيبتها في البلاد، يلاحظ ارتياد المطلوبين بمذكرات توقيف بقضية المرفأ، في المطاعم والمقاهي في بيروت من دون أي ريبة، إذ عادة تقوم الضابطة العدلية بتوقيف أي شخص صادرة بحقه مذكرة توقيف.

ويؤكد مصدر قضائي في النيابة العامة التمييزية، إلى أن مذكرات التوقيف الصادرة بحق هؤلاء هي وهمية ولا يمكن تطبيقها، “لأن القرار الأمني والقضائي في البلاد خاضع لإرادة السياسيين”، لذلك برأيه يتحرك هؤلاء بحرية وطمأنينة، كاشفاً أن معظمهم يسافرون عبر المطار ذهاباً وإياباً، على رغم تعميم مذكرات توقيفهم على كافة المنافذ الحدودية.

عقوبات أوروبية

وبالتوازي مع العرقلة المستمرة، أعلن المحامي بيار جميل (شقيق أحد الضحايا)، أنه توجه منذ أسابيع إلى فرنسا لمواكبة جلسة عُقدَت في محكمة باريس حضر فيها الأهالي الأوروبيّون من ضحايا تفجير مرفأ بيروت، حيث رفعت صور الضحايا على باب المحكمة.

ووفق المعلومات، يتوقع أن يعقد البرلمان الأوروبي، في ستراسبورغ جلسة في 15 يونيو (حزيران) الحالي تتضمّنها ورقة خاصة بالانفجار تضم مجموعة من الأسماء يعتقد القضاء الأوروبي أنهم معرقلون أساسيون في هذه التحقيقات، إذ تبين أن محققين من عدة دول أوروبية يتواصلون مع جهات حقوقية في لبنان طالبين تزويدهم بمعطيات عن المعرقلين، حيث يتوقع أن تتجه الأمور نحو فرض عقوبات على قائمة من تلك الأسماء.

مراحل حاسمة

ومنذ 4 أغسطس 2020، مر التحقيق بمراحل عدة، بعضها كان لافتاً وغير متوقع وشكل نافذة أمل استثنائية للبنانيين، إلا أنها لم تستمر طويلاً نظراً لسرعة الالتفاف عليها من قبل “المتهمين”، وبعد مرور ما يقارب الثلاث سنوات، ما يأتي أبرز التطورات في القضية منذ وقوع الانفجار:

في 6 أغسطس، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بيروت حيث تفقد المرفأ والأحياء المتضررة، ودعا حينها إلى تحقيق دولي في التفجير، وهو ما رفضه الرئيس اللبناني ميشال عون، بعدها، رعت فرنسا مؤتمراً دولياً لدعم لبنان، تعهّد خلاله المجتمع الدولي تقديم مساعدة طارئة بقيمة 300 مليون دولار بشرط ألا تمرّ عبر مؤسسات الدولة.

وفي 8 أغسطس، تظاهر آلاف اللبنانيين ضد المسؤولين السياسيين بعدما حمّلوهم مسؤولية المأساة، وشهدت التظاهرات مواجهات عنيفة بين محتجين غاضبين والقوى الأمنية، انتهت باستقالة حكومة حسان دياب في 10 أغسطس، بعد أن أعلن عدد من الوزراء تباعاً استقالتهم.

الادّعاءات

في 10 ديسمبر (كانون الأول) 2020، ادّعى المحقق العدلي في قضية الانفجار فادي صوّان على دياب وثلاثة وزراء سابقين بتهمة “الإهمال والتقصير والتسبّب بوفاة” وجرح مئات الأشخاص، قبل أن يتم تنحيته وتعيين طارق البيطار خلفاً له، في 18 فبراير (شباط).

وفي 2 يوليو (تموز)، أعلن البيطار عزمه على استجواب دياب، تزامناً مع إطلاقه مسار الادّعاء على عدد من الوزراء السابقين وعلى مسؤولين أمنيين وعسكريين.

ومنذ ذلك الحين، غرق التحقيق في متاهات السياسة ثم في فوضى قضائية بعدما حاصرت عشرات الدعاوى عمل المحقّق العدلي، تقدم بغالبيتها مسؤولون مُدّعى عليهم.

في 4 أغسطس 2021، رعى الرئيس الفرنسي مؤتمراً دولياً ثالثاً، تعهّد خلاله المانحون تقديم 370 مليون دولار للبنان، وبعدها استطاع نجيب ميقاتي تشكيل حكومته في 10 سبتمبر (أيلول) 2021، بعد 13 شهراً من الانتظار.

ضغوط حول التحقيق

وفي 11 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، ندّد الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله بما وصفه بـ “استنسابية” المحقّق العدلي، مطالباً بقاضٍ “صادق وشفّاف” لاستكمال التحقيق في القضية، وتلاها تهديد مباشر للقاضي البيطار من قبل القيادي في “حزب الله” وفيق صفا في قصر العدل.

وفي 14 من الشهر نفسه، اندلعت أحداث “الطيونة”، حيث قُتل سبعة أشخاص جرّاء إطلاق رصاص أثناء تظاهرة لمناصري “حزب الله” و”حركة أمل” ضدّ المحقّق العدلي.

وتمّ تعليق التحقيق في الانفجار أربع مرّات جرّاء دعاوى قُدّمت ضدّ المحقق العدلي، آخرها في 23 ديسمبر 2021، قبل استئنافه أخيراً لعدة أيام فقط في 23 يناير 2023، حيث قرّر حينها الادّعاء على ثمانية أشخاص جدد بينهم المدير العام للأمن العام عبّاس إبراهيم ومدير جهاز أمن الدولة طوني صليبا، والمدعي العام التمييزي غسان عويدات وآخرين.

اندبندنت

مقالات ذات صلة