أمسية مع أحمد قعبور: نحن الناس!

قد يكون أمرًا خطيرًا التصريح بأنّي وجدت الجواب الذي أقنعني شخصيًّا عن ماهيّة “الروح”! وهذا بعد الحادث الذي حصل معي وأدخلني في غيبوبة دامت ثلاثة أسابيع. وبحسب الطبيب فإنّ ذاكرتي “القصيرة” (بعد صورة الأشعّة للرأس) هي التي تأثّرت. وقد أنسى أسماء أشخاص قابلتَهم ظرفيًا، أو عرفتهم من قبل، لكنّي لا أقابلهم بشكل مستمرّ! ومن أنشطة الذاكرة التي تأثّرت سلبًا كل ما يتعلّق بالوصول إلى الأمكن، أي الذاكرة الجغرافيّة، وبالطبع لا أنسى صُوَرالأمكنة. فذاكرتي البصرية لم تَضعف، حيث كانت دراستي للفنون الجميلة (الرسم والتصوير) تعتمد على تلك الذاكرة البصريّة. وما حدث معي، وبشكلٍ شخصي، من دون الاستناد إلى المستوى الطبّي أو العلمي، هو أن الذاكرة البعيدة حضرت فجأة أمامي. فالأماكن التي أمرّ بها، تأخذني بداعي التشابه إلى أحداث قديمة، واجهتني في الطفولة. فقد أذكر وجه معلّمتي في الصفّ التمهيدي (فلم يكن هناك آنذاك روضة أولى وثانية) حين أصادف عيونًا أو فمًا مشابهًا لفمِ المعلّمة “آمال”. وما بدأت بالحديث عنه، سببه مجموعة أنشطة قام بها منتدى الخدمة المدنيّة للسلام بمناسبة ذكرى الحرب الأهليّة (نيسان 1975)، وقد نُفّذت الأنشطة في شهر أيّار تفاديًا لتضارب الموعد مع شهر رمضان وعيد الفطر.

وما أودّ الحديث عنه، الأمسية التي حضرتها مع الفنان أحمد قعبور. وقبل أن أتحدّث عن أهمّية اللقاء معه، سأسرد-من ذاكرتي- ما الذي يعنيه لي فنّ قعبور. فالذاكرة تُخبِر عن نشأتي في أسرة يمكنني القول عن عمودها (والدي رحمه الله) بأنّه مناضل نقابي عنيد. فمن يخوض النضال السياسي والمجتمعي، لا بدّ أن يهتمّ بالتربية السليمة لأولاده. فتعرّفت بما كان يُسمّى حينها “الأغنية الوطنيّة”. وكان هذا الاسم في ظلّ انقسام أنتج حربًا أهليّة بين فئتين: الإسلام والمسيحيّة (حينها) بينما الحقيقة هو صراع تاريخي بين اليمين واليسار! وعلى مرّ الزمان.. والمكان. وقد حملتني الأمسيّة مع أحمد قعبور، إلى الزمن الذي كنّا نشعر بالفرحة العارمة حين كان أبي أو أحد أخوتي الكبار، حين كان أحدهم يأتي ومعه “كاسيت” أغاني لأحمد قعبور أو مارسيل خليفة.

نعم، كانت الأغاني “الوطنيّة” جزءًا من التربية “اليساريّة”! وهذا الجزء من التربية دفعني لأُولي اهتمامًا بموضوع الذاكرة. نعم فالصور التي كانت تحضر ذهني (ذاكرتي البصرية) كانت صورًا لأمكنة، غالبًا ما تكون مُتخيّلة، ولكنها جميلة. فهي تعكس صور البيوت القديمة التي قطنتها عائلتي منذ بدأنا “نتهجّر” في العام 1975.

كنتُ في الرابعة من العمر وصورة العائلة التي تعبر من المنطقة “الشرقيّة” إلى “الغربيّة”، لا أنساها: أبي وأمّي وسبعة أطفال، أكبرهم في الثانية عشر من عمره والأصغر بلغ سنته الثالثة. ومن ذاكرة أمّي: الحيّز الإنساني داخل المقاتل الكتائبي الذي دفعه لينادي المقاتل اليساري في الضفة الأخرى قائلاً: “وقّف قواص ليمرقوا! هودي إسلام من عندكم!!”

ولا يعلم المقاتلان بأن الذاكرة لا تعترف بـ: عندنا وعندكم! الذاكرة جامعة الأحداث. ولا يمكننا أن نتعافى من آفة الحرب الأهلية إلاّ لو تعاملنا مع ذاكرتنا بشكل صحّي وسليم. أحمد قعبور استطاع في أمسية لطيفة أن ينفث من فمه حديثًا عابقًا بزهر الليمون. بصورٍ من بيروت، مبنىً يحملُ أثرًا من الحرب الأهلية. خطوط التماس والرصاص المنتشر المخردق لجدران المبنى، وذاكرة أحمد قعبور حملتنا بصوته إلى بساتين الليمون في صيدا، وإلى المباني القديمة في الطريق الجديدة.. صوتٌ يصدح بأشعار عمر الزعنّي: بيروت زهرة في غير أوانها.. وكم هي حزينة الزهرة التي تنبت خارج الحديقة. ففي أغنيةٍ مُصوّرة، عَكَسَ أحمد قعبور ذاكرة مدينة، بأبرز الشخصيَّات التي لوّنت ذاكرة بيروت الأصيلة قبل أن تعبث بها الحرب العشوائيّة.

وهذا أيقظ ذاكرتي الطفوليّة، التي كانت تنتظر على الشاشة الصغيرة أبو سليم بشخصيّاته الكوميدية. كم كنّا نقضي وقتًا في المدرسة لتقليد أبوسليم وأسعد ودرباس.. وطريقتهم في الكلام!

بالإضافة إلى صوته الدافئ، يملك قعبور ذاكرة ناصعة. وهذا نراه بوضوح تامّ من خلال الكلمات التي يكتبها لتُبرِزْ موقفًا إنسانيًّا من مصطلحات تبتكرها العقول المريضة مُجتمعيًّا. وأقصد تمامًا أغنية لم تُذَع بعد، أخبرنا عنها قعبور في الأمسية، عن الفتاة “العانس” كما يُطلق عليها المجتمع، وهي الفتاة التي لم تتزوّج وبقيت عزباء. وعلاقة العزباء بموضوع الذاكرة، علاقة وطيدة. فذاكرة الفتاة العزباء تعبقُ بروائح الأمكنة والأغراض الجميلة، كالمرآة التي تقضي وقتًا أمامها، بصحبة المشط والفرشاة. وأضاف قعبور الحداثة في الأغنية فتُمزج أمنية أختي سميرة مع الذاكرة (المُبيّتة): ..”أختي سميرة شو عبالها بتاخد سيلفي لحالها..” في أغنية واحدة لعمر الزعنّي، نتحسّر على بيروت التي تشبه الزهرة “في غير أوانها”. فلا أحد يُدرك قيمة بيروت، ولا تساوي كل الدعايات السياحية، عن بيروت بوصفها “سويسرا الشرق”، زاروب ضيّق في بيروت يتعارك فيه الصبيان فيما ينشغل البنات بلعبة “بيت بيوت”.

أستطيع أن أجزم أن أحمد قعبور هو أحد أهمّ المؤتمنين على حفظ ذاكرة بيروت، وقد أوردَ في كليب أغنية “بيروت زهرة في غير أوانها” شخصيات بارزة ومؤتمنة كانت على حفظ ذاكرة بيروت: فيروز والرحابنة/ صباح/ وديع الصافي/ نصري شمس الدين/ فريال كريم/ أبوسليم/ أبو ملحم/ فيلمون وهبي/ نجاح سلام/ ليلى كرم/ سعاد محمّد/ أماليا أبي صالح/ ماجد أفيوني/ ابراهيم مرعشلي/ إيلي صنيفر/ رياض شرارة/ زياد مكّوك/ هند أبي اللمع/ عبد المجيد مجذوب/ محمود سعيد، وتعمّدت أن أذكر جميع من وردت صورهم في الكليب من ممثّلين.

ولم يَغفل قعبور –بالطبع- عن الشخصيّة الأشهر التي كَثُرت الطُرَف حولها: أبو العبد البيروتي، كما لم ينس العمود الثقافي، الكاتب المُبدع “محمّد عيتاني بـ”أشيائه التي لا تموت”. وتأكيدًا على أصالته، ربط قعبور الذاكرة العامّة لبيروت بذاكرته الخاصّة فلم ينسَ والده الرشيدي عازف الكمان الأوّل في بيروت. يتمشّى أحمد قعبور في كليب الأغنية في شوارع بيروت القديمة، يرمي نظرات الحسرة على ماضٍ جميل، حيث غطّت رائحةُ المجاري والنفايات رائحةَ زهر الليمون وأكواز الصنوبر.

وأكل الباطون المُسلّح المساحات الخضراء، فماتت الزهرة التي “في غير أوانها”. وبقي ..”المُسلح” يُلصِق صورَ شهدائه فوق آفّيشات السينما من الزمن الجميل. فلنوقظ الذاكرة بصوت قعبور، ونصرخ: نحنا الناس.

المدن

مقالات ذات صلة