صيدا من معروف ورياض ورفيق… إلى الشاطىء: ما جرى له سببان خطيران ومقلقان!

لم يكن مألوفاً أن تُقرع أجراس كنائس البلدة كلّها معاً، وعند العشيّة. كان جليّاً أنّ أمراً جللاً قد حصل.

بعد لحظات بدأت المأساة تتناقلها ألسنة السائلين: ابنة معروف سعد توفّيت في حادث سير عند مدخل جزّين، وهي في طريق عودتها إلى بيتها وأهلها في بكاسين.

في اليوم التالي أقفلت عروس الشلّال، من بيادرها إلى المعبور، حداداً على عروس صيدا. نزلت كلّها إلى “مدينتها الشتويّة” لتودّع ابنتها، وابنة “معروف القلعة”.

كان ذلك قبل نحو نصف قرن. بعد تلك المأساة بسنوات قليلة، سقط معروف. بين 26 شباط و6 آذار 1975. شهيد خبز وحرّية لكلّ الناس.

قبله بزمن، جاء من صيدا زعيم آخر كبير. اسمه ما يزال رمزاً لكيان واستقلال. رياض الصلح. سقط شهيداً هو أيضاً في عمّان في 16 تموز 1951. من أجل “لبنانيّة” خاصّة سيّدة حرّة. أيّاً كانت تأويلات الاغتيال وقراءات الخلفيّات.

بعد الاثنين سقط صيداويّ آخر. رفيق الحريري. ولمّا يزل الاغتيال يتمادى ويتداعى. من صيدا إلى بيروت وكلّ لبنان وأبعد منه بكثير. لقد كان اغتيالاً لبلد وشعب وحرّيّتهما بقدر ما كان إعادة رسم لمشهد إقليم ومنطقة بالدم.

هذه صيدا. أمّا ما جرى قبل أيّام، فمسألة أخرى تماماً. أي الخلاف على لباس “المايّوه على شاطىء المدينة، بين النسويات والشيوخ… ما جرى له لها سببان اثنان. وسببان خطيران ومقلقان.

*************************

سقوط كامل الدولة… ليس صيدا فقط

السبب الأوّل لإشكال صيدا الأخير، كان قد أعطى أكثر من عارض تمهيدي وإنذار مسبق منذ فترة. هذه بعض الأمثلة من مناطق لبنانية مختلفة:

شخص يحتلّ 40 ألف متر مربّع من الأملاك العامّة، قرّر تشييد مصالحه الخاصة عليها. جاءت دوريّة من قوى الأمن الداخلي لوقفه. فجمع بوجهها عائلة وعشيرة وشعارات دينية ونفّذ غزوة ضدّ رمز الدولة، مؤمناً بأنّه على حقّ. هرب عناصر الشرطة، وأثبت المعتدي أنّه هو الدولة.

شخص آخر مات له نسيب في مستشفى. لم يفهم السبب، فقرّر تحطيم المستشفى وضرب طاقمه الطبّي والتمريضي والإداري، مؤمناً بأنّ هذا حقّه استيفاء لحقّ ميته.

شخص ثالث، ولسبب غير معروف وغير مهمّ، أرسل مسلّحين في منتصف النهار والضوء ساطع والشمس شارقة، إلى وسط شارع سكنيّ. ترجّلوا معاً من سيّارة فارهة. أطلقوا النار متكافلين متضامنين على منزل في مبنى مقابل. أفرغوا ما في جعبتهم من حقّهم في ما فعلوه. ثمّ ركبوا سيّارتهم وعادوا بوجوه مكشوفة وأسماء معروفة إلى منازلهم آمنين مطمئنّين.

قبل هؤلاء، ومعهم كلّ لحظة، كان مراهق على درّاجة ناريّة، يقود خلافاً لكلّ قانون ونظام. وصل إلى إشارة سير حمراء. لم يتوقّف. ساعده شرطي السير على خرقه لعلّة وجود الشرطي نفسه. عبَر المخالِف. ولم يكن أوّل العابرين ولا آخرهم…

فوق هؤلاء والأخطر منهم، مسؤول كبير أقدم على تزوير واستخدام المزوّر. وعاش حياته سعيداً. مسؤول آخر متورّط في فضيحة ماليّة دولية، وباسم مزوّر أيضاً. فصار منصبه أعلى. مسؤول ثالث أنفق نصف مليار دولار من المال العامّ على مقعده النيابي. ومليارات لا تُحصى من المال نفسه على زعامته وبطره السياسي. مسؤول رابع وخامس وأخير… لم يسمعوا مليون شابّ وشابّة يقولون لهم إرحلوا في 17 تشرين. لجأوا إلى أسلحة بلطجيّتهم ليصمّوا آذانهم عن سماع ناسهم. وفقأوا عيون الناس كي لا يروهم وقد سدّوا آذانهم… فيما المؤتمَن على “تحرير” الأرض يؤثِر الفاسد على الثائر. لأنّ الفاسد مطواع معروف. بينما الثائر متمرّد مجهول…

ما حصل في صيدا، سببه الأوّل أنّ هناك دولة سقطت. سقطت كمؤسّسات وقوانين وأنظمة وآليّات. وسقطت كمفهوم دولة وثقافة دولة.

دولة سقطت في وجدان الفرد وسلوكه. سقطت كبنية فوقية لمجتمع بشريّ. مجتمع تعريفه الأساسي، أنّه تعبير حرّ عن إرادة العيش معاً على أرض واحدة. عيشٌ تجمعه مصالح حياتية مشتركة. وتنظّمها مؤسّسات محدّدة. فتأتي الدولة فوق ذلك كلّه، بنية ناظمة، بسلطة حصريّة. تحمي الفرد من طغيان الكثرة. وتصون الجماعة من نزوات الفرد. فيتحوّل هو مواطناً وتصير بيئته وطناً…

سقط كلّ ذلك. فصار ما صار في كلّ بقعة وموقعة. وصولاً إلى صيدا.

العودة إلى هويّات “ما قبل الدولة”

لكنّ هناك سبباً ثانياً لا يقلّ دقّة وحساسيّة. اختصاره، أنّه حين تسقط دولةٌ كمفهوم وثقافة، بعد زمن على وجودها، يعود الناس إلى هويّاتهم الما قبل الدولة، أو ما دونها. يعودون بدافع الاحتماء وغريزة البقاء، إلى حدود انتماءات العائلة والعشيرة والحيّ و”الطائفة”. فتصير سلوكيّات تلك العودة تعبيراً عن خوف مكبوت، تتمّ تغطيته بتعبيرات القوّة المزعومة والمذعورة في آن.

وأهل صيدا كما كلّ “قلعة” خائفة أو “مخيفة” في لبنان اليوم، جزء من هذا السياق والمناخ، لكن مع خصوصيّة زائدة. هي خصوصيّة ما وصفه جبران عريجي منذ أكثر من عقد، بمفهوم “الاعتلال السنّيّ”.

إذ توجد هنا جماعة أصيلة مؤسِّسة للكيان وللدولة وللاستقلالَين، صارت فجأة خارج كلّ ما أسّسته: بلا زعامة وطنية موازية لزعامات الآخرين، وبلا مرجعية إقليمية توازن “احتضان” الآخرين وحماياتهم وامتيازاتهم، ولا حتى من يسأل أو يهتمّ، لا من أبناء الوطن المفترَض واحداً، ولا من قادة “الأمّة” المفترضة واحدةً أيضاً.

جماعة يموت بشرها كلّ يوم، في مراكب الموت، وفي سجون النسيان، وفي تهم جاهزة، وفي انعدام وزن من التخلّي الكامل.

جماعة انتقلت من عبد الناصر وأبي عمّار إلى “لبنان أوّلاً”. فظلّ أدعياء “اللبنانية” غافلين. سُفِك دمها الاستقلاليّ بغزارة. فاستُبيح دورها. حتى ذهبت إلى 17 تشرين هازجة فوق اتّهامات التطرّف: فتحت للثورة بيتاً، بل لكلّ منازل الثوّار في قلب طرابلس النور. اعتصمت على تقاطع إيليّا دهراً. غنّت في بيروت وأغنت كلَّ خيمةِ حراك. لتحلم بوطن خيمة واحدة فوق رؤوس الجميع…

حتى هُجّرت وتهجّرت.

هو مشهد في عمق الوجدان والإحساس، مماثل لِما عاشه الشيعة في تموز 2006. يوم شعروا تحت سعار الحديد والنار، أنّ هناك من يريد ذبحهم من داخل وخارج.

هو مشهد مماثل لِما عاناه المسيحيون مطلع تسعينيّات القرن الماضي: يوم خُيّروا بين المنافي والمعتقَلات وتبعيّات الوصايات. فيما شركاءُ مفترضون يحتفلون. قبل أن يدرك الجميع أنْ ذُبحنا يوم ذُبِح أيٌّ من إخوتنا…

السبب الأعمق لِما حصل في صيدا، هو أنّنا أسقطنا دولتنا. فكان ردّنا جميعاً بأن أسقطنا إنسانيّتنا ومواطنيّتنا بعدها. وصرنا كلّنا، وسرنا كلّنا، على دروب التوحّش.

ليس هذا المفهوم غريباً. كتب عن “إدارته” أحد منظّري داعش، مطوّلات. وتنبّأ به لنا زياد الرحباني قبل ثلاثين سنة، في آخر وقفة له على خشبة. كأنّه أدرك أنّه ختم الكلام. وختمنا المصير.

هل أصاب؟

هو تحدّي ما بقي فينا من إرادة حياة. علّة وجودها حرّية وحداثة لا غير. لنثبت لأنفسنا قبل أيّ آخر، أنّ على شاطئ هذا البحر، “ما يستحقّ الحياة”، ولا يخدش الحياء أبداً.

جان عزيز- اساس

مقالات ذات صلة