سلامة يحاول إخفاء فضيحته الجديدة!
أبلغ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة المسؤولين في هيئة الأسواق الماليّة أن “شركة لبنان الماليّة”، المعروفة اختصارًا بإسم سوفيل، في طريقها للإقفال والتصفية. من حيث المبدأ، وعلى “الورقة والقلم”، الشركة ليست سوى واحدة من 40 شركة تملك تراخيص الوساطة في السوق، كمؤسسات ماليّة قانونيّة، فيما يظهر ترخيص سوفيل تحت الرقم “7” في وثائق المصرف المركزي.
إلا أنّ العارفين بدهاليز المصرف، يعرفون أنّ وراء الأكمة ما وراءها، وأنّ إقفال الشركة اليوم يأتي لدفنها، ودفن أسرارها معها. أسرار، قد لا تكون أقل خطورة من أسرار شركة “فوري”، التي تحقق بشأنها النيابات العامّة الأوروبيّة اليوم، والتي جنت أرباحها الفاحشة تحت ستار من أعمال الوساطة الوهميّة.
ببساطة شديدة، وقبل ثلاثة أشهر من نهاية ولايته، يحاول سلامة تنظيف الوسخ المتراكم في سجلاته، قبل الرحيل، وقبل أن تتوسّع التحقيقات في الخارج طالبةً المزيد من التفاصيل حول عمليّاته المشبوهة. أمّا القضاء اللبناني، فما زال بعيدًا عن التعامل بجديّة مع كل هذه الشبهات، التي تذكّر بشكل واضح بلعبة العمولات المشبوهة التي جنتها شركة فوري.
شركة المحظيين من أصدقاء سلامة
وثائق سوفيل تُظهر أن هناك 32 مصرفًا لبنانيًا يتشاركون ملكيّتها، ومنهم مثلًا بنك العودة، الذي يستحوذ وحده على ملكيّة 8.05% من الأسهم (المالك الأكبر)، وبنك بيروت الذي يملك 7.3% منها، وفرنسبنك بنسبة 7.08%، وفرنسبك إنفست (الذراع الاستثماريّة لفرنسبنك) بنسبة 5%، وسوسيتيه جنرال بنسبة 4.25%، وبنك ميد بنسبة 4%. وهذه المصارف الستّة، تملك وحدها مجتمعةً أكثر من ثلث الأسهم، فيما تتشارك المصارف الأخرى الـ27 ملكيّة سائر الأسهم.
لا يحتاج المرء كثيرًا ليشعر ببعض الارتياب هنا. أكبر المساهمين في الشركة، هو البنك الذي شارك الحاكم عمليّاته المشبوهة في أوروبا، والذي خُلقت لأجله أولى عمليّات الهندسات الماليّة. وجميع هذه المصارف الستّة، تُعد من فئة المصارف المحظيّة لدى حاكم مصرف لبنان، والجريئة في التورّط بعمليّاته الملتبسة، ولو بدرجات وأشكال مختلفة.
ومن محاسن الصدف، أن تكون جميع هذه المصارف من صنف المصارف التي وردت أسماؤها في التحقيقات المتعلّقة بقروض “التسعة مليارات دولار”، التي منحها مصرف لبنان لبعض المصارف في بدايات الأزمة، والتي يُشتبه باستخدامها لتهريب الأموال للخارج. أما المدير العام للشركة، فليس سوى ميشال فرنيني، المصرفي المقرّب من حاكم مصرف لبنان، والذي دخل بهذه الصفة إلى مجلس إدارة شركة إنترا سابقًا.
ثم يُطرح هنا السؤال البديهي: لماذا تؤسّس هذه المصارف، المتنافسة في العادة، شركة ماليّة مشتركة، طالما أنّها تملك قدرة تأسيس شركاتها الماليّة ومصارفها الاستثماريّة وأذرعها المتخصّصة بعمليّات معيّنة؟ لا بل أن كثيراً من المصارف الشريكة في سوفيل، تملك أساسًا مؤسسات وساطة ماليّة، يفترض أن تنافس سوفيل نفسها على دورها! مع العلم أنّ أبرز مهام هذه المؤسسات هي تملّك الأدوات الاستثماريّة، كسندات الدين العام مثلًا، وبيعها في السوق.
حسنًا: قبل العام 1997، مارست الشركة أعمالّا كان يفترض أن تكون –في الوضع الطبيعي- من مهام المصرف المركزي نفسه. بين عامي 1988 و1992 مثلًا، نظّمت الشركة مقاصة الشيكات بالعملات الأجنبيّة. بين عامي 1986 و1987، لعبت الشركة دورًا في تنظيم عمليّات القطع بشكل مركزي. بين عامي 1993 و1995، عملت الشركة على “تخزين” الدولارات لصالح المصارف.
وهكذا، كانت جميع هذه الأدوار المؤقتة، قبل العام 1997، ترتبط بانكفاء المصرف المركزي عن لعب دوره في هذه المجالات، قبل أن تكتمل خريطة تنظيم عمليّات المصرف. وهذا ما يدل على طبيعة النفوذ الذي امتلكه أصحاب الشركة، داخل النظام المالي اللبناني.
عام 1997، انتفت الحاجة لخدمات الشركة في جميع هذه المجالات، كما يبدو واضحًا من تاريخ نشاطها المالي. ثم أتت التطوّرات سريعًا لتستحدث دورًا فضائحيًا جديدًا للشركة، وعلى نحوٍ لا يقبله المنطق ولا العقل…
الفضيحة: الهندسات مع هيئة الأسواق الماليّة
حين صدر قانون الأسواق الماليّة، نصّت المادّة السادسة والعشرون منه على تمويل هيئة الأسواق الماليّة من خلال الاشتراكات السنويّة المفروضة على الشركات المرخّصة لديها، وبموجب أنظمة تطبيقيّة يجري إصدارها لاحقًا. وبذلك، كان المفترض أن تتحمّل المصارف، التي تملك مؤسسات ماليّة مرخّصة، هذه الرسوم، ومن الأرباح السخيّة التي تؤمّنها المؤسسات الماليّة. مع الإشارة إلى أنّ الهيئة اختصّت -حسب القانون- بمراقبة عمل الأسواق الماليّة، ووضع التنظيمات المرتبطة بالتداول بالأدوات الماليّة.
مشكلة القانون الأساسيّة، هو أنّه أعطى حاكم مصرف لبنان صلاحيّة رئاسة الهيئة الجديدة، ما أضاف تضاربًا جديدًا في المصالح، تمامًا كحال تضارب المصالح الناتج عن ترؤّس الحاكم –في الوقت نفسه- الهيئة المصرفيّة العليا وهيئة التحقيق الخاصّة والمجلس المركزي للمصرف، ناهيك عن امتلاكه صلاحيّات تنظيم القطاع المصرفي، والوصاية غير المباشرة على كل مراسلات لجنة الرقابة على المصارف.
وتمامًا كما أدّى تركّز الصلاحيّات وتضارب المصالح إلى “تخبيصات” كبيرة في إدارة القطاع المصرفي والشأن النقدي، أدّى تضارب الصلاحيّات المتعلّق برئاسة هيئة الأسواق الماليّة إلى “تخبيص” آخر في إدارة الأسواق الماليّة.
هنا، قرّر الحاكم أن يعفي أصدقاءه المصرفيين والمساهمين في الشركات الماليّة من عبء الرسوم التي كان يفترض أن تموّل هيئة الأسواق الماليّة. ثم قرّر اختلاق هندسة ماليّة خاصّة تجري كالتالي: يقرض مصرف لبنان الهيئة الأموال من دون فوائد، ثم تستثمر الهيئة الأموال في الأدوات الماليّة المنتجة للربح، كسندات الخزينة مثلًا، لتؤمّن الهيئة الإيرادات التي تحتاجها. وهكذا، رفع الحاكم العبء المالي عن كاهل المصارف، وحمّله للمال العام.. كما هي العادة.
ثم يأتي هنا دور شركة سوفيل…
فلسبب عجيب لا يعلمه أحد، قرّر الحاكم منح سوفيل صلاحيّة “السمسرة” على هذه الهندسات الغريبة، لتصبح الشركة الوسيطة المخوّلة شراء الأدوات الماليّة، وبيعها لمصلحة هيئة الأسواق الماليّة، مقابل عمولات وهوامش ربح. وهكذا، باتت المصارف التي تملك سوفيل تربح من تمويل هيئة الأسواق الماليّة، عبر عمليّة “الوساطة” المزعومة، بدل أن تتحمّل كلفة تمويل هيئة الأسواق الماليّة كما ينص القانون!
وكما هي العادة أيضًا، لم يقدّم الحاكم يومًا أي توضيح، بخصوص السبب الذي دفعه لاختيار سوفيل بالتحديد لهذه المهمّة، بدل أن تشتري هيئة الأسواق الماليّة الأدوات الماليّة مباشرة من مصدّرها الأساسي: مصرف لبنان، الذي يرأس حاكمه الهيئة نفسها.
وفي كل هذه العمليّات، حرص الحاكم على إبقاء القرارات محصورة بشخصه، ومدير التنظيم والتخطيط في مصرف لبنان رجا أبو عسلي، ما يدفع البعض للسؤال عن حقيقة وجود عمليّات وساطة قامت بها الشركة أصلاً.
مع الإشارة إلى أنّ أبو عسيلي خضع للتحقيق في ملف شركة فوري، الشركة المسجّلة بإسم شقيق حاكم مصرف لبنان، والتي يُشتبه باستعمالها من قبل الحاكم لاختلاس 330 مليون دولار، من أموال مصرف لبنان، بذريعة قيامها بأعمال وساطة ماليّة لبيع أدوات ماليّة. وفي الوقت الراهن، يشتبه المحققون الأوروبيون بأنّ فوري كانت شركة وهميّة، حصلت على الأموال من دون وجه حق، ومن دون تقديم أي وساطة ماليّة فعليّة.
محاولة دفن الفضيحة
مع توسّع التحقيقات في ملف شركة فوري، فاحت رائحة سوفيل في أروقة المصرف المركزي وهيئة الأسواق الماليّة. فسوفيل شركة “وساطة” ماليّة أيضًا، مملوكة من المحظيين لدى الحاكم، وتقوم بنشاط لا يبرّره أي منطق مالي، تحت ستار التداول بسندات الدين العام و”السمسرة” عليها.
وتمامًا كحال فوري، كانت سوفيل مجرّد شبح، يصعب تعقّب عمليّاتها أو مراقبتها، كما يصعب التدقيق في نوعيّة الأرباح التي تحصل عليها. وهكذا، بدأت الاعتراضات على نشاط الشركة تتصاعد داخل دهاليز المصرف المركزي وهيئة الأسواق الماليّة، خصوصًا بعدما رأى الجميع عاقبة التواطؤ للتغاضي عن هذا النوع من الأنشطة المشبوهة، بعدما تم استدعاء مسؤولي المصرف للتحقيق في ملف فوري.
هكذا، على جناح السرعة، وقبل أن يغادر سلامة منصبه بعد ثلاث أشهر، بدأ العمل على دفن الملف. أبلغ الجميع أنّ الشركة ستُقفل وتُصفّى، من دون أن يوضّح البدائل التي ستسمح بتمويل هيئة الأسواق الماليّة في المرحلة المقبلة. وهنا، كان من الواضح أن الحاكم يسعى لإنهاء ملف الشركة، وتلف محتوياتها وسجلّتها، قبل أن تفتح التحقيقات الأجنبيّة ملفّها وتدقق في مصدر أموالها.
ومن حسن حظ الحاكم والمصارف التي تملك الشركة، أن المحققين الأوروبيين لم يحصلوا بعد على خيوط تربط عمليّات الشركة بتحويلات تمر بالمصارف الأوروبيّة. فاستخدام المصارف الأوروبيّة لتبييض الأموال المشتبه بها، هو وحده ما كان سيعطي المحققين صلاحيّة التوسّع في هذا الملف. أمّا القضاء اللبناني، فلم يتحرّك بعد، رغم أن إسم الشركة كان قد ورد سابقًا في التحقيقات المرتبطة بشركة فوري، ومن باب المقارنة بين عمل الشركتين.
علي نور الدين- المدن