المراكز الفنية اللبنانية تحت حكم الدولار: الفن ليس من الكماليات ولكن الحلم غالٍ

“تدربت حوالى السنتين في أحد المعاهد الموسيقية في بيروت، إلا أن الظروف أجبرتني على التخلي عن عزف العود الذي أحببتُ وتمنيتُ إتقانه”، يقول ميشال (22 سنة) لـ”المدن”. لبنان، الذي تحوّل إلى بلد يضيق بفقرائه، من الطبيعي أن يتم حصر الفن والأنشطة الفنية فيه في طبقة “فاحشي الغِنى”. ميشال هو واحد من مئات، تخلوا عن مواهبهم بعد تحليق أسعار الدولار وما تبعه من تحولات جذرية في أساليب الحياة اليومية.

البلد الذي تميّز عربياً لسنوات بثقافته وفنه ومسرحه، يخسر اليوم فرصة تنمية مواهبه الصاعدة. يتضاعف المشهد العام الكئيب عند ميشال وأمثاله، بعدما حرموا مما أبعدهم ولو قليلاً عن المعاناة اليومية. “أسعارنا بالدولار، إيه نعم، الفريش دولار”، هي العبارة الأكثر رواجاً بين مراكز ومعاهد ومدربين تواصلت معهم “المدن”.

انكماش الصفوف… والمغادرة
وصل ميشال إلى مراحل متقدمة في رحلته لإتقان العزف على آلة العود وتعلّم تأليف الألحان الموسيقية من دون قراءتها، واشترى آلة قبل الأزمة رغم ارتفاع سعرها. كان يلمس تقدماً ملحوظاً في أدائه، وهو ما سمعه دائماً من الأساتذة الذين أشرفوا على تدريبه في المعهد الموسيقي. تأثيرات الأزمة الاقتصادية بدأت مع لجوئه إلى تقليل عدد الصفوف لأن كلفتها بدأت تتضاعف، إلى جانب كلفة التنقلات.

عندما وصل سعر الحصة التدريبية إلى قرابة الـ300 ألف، “وجدت نفسي غير قادر على تحمل هكذا عبء في ظل تكاليف جامعتي ووضع أهلي المحدود”، يضيف ميشال. كما يشير إلى أنه حاول التعلم بالاستعانة بمقاطع فيديو في “يوتيوب”، إلا أن العود آلة صعبة وإتقانها يحتاج مدربين واختصاصيين، والفيديوهات غير كافية لتعلّمها خصوصاً في مستويات متقدمة.

لا يختلف الوضع كثيراً لدى وفاء (25 عاماً)، التي تخلّت عن تعلّم الرسم بسبب تحليق أسعار المواد المستخدمة. سنة واحدة فصلتها عن التخرج من كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، بعد ارتفاع سعر صرف الدولار. تقول وفاء لـ”المدن”: “حاولت التأقلم مع الأسعار، إلا أن عملي ومساعدة أهلي لم يكفيا لتحمل تكاليف مواد الرسم وإيجار منزلي ونفقات التنقلات من بيروت إلى صيدا”.

الأفضلية للصفوف الجماعية
في جولة على نوادي الرقص، تفاوتت أسعار الحصص الخاصة بين 25 و45 دولاراً، أما الصفوف الجماعية فلها حكاية خاصة وكلٌّ يُسعِّر “على راسه”. قرر البعض خفض كلفتها، بحكم أنّ من يلجأ إلى هذا النوع من الصفوف غير قادر على تحمّل تكاليف الصفوف الخاصة. نوادٍ ثانية قررت رفع أسعار الصفوف الجماعية أسوة بالخاصة، بحجة مداخيل المدربين والنفقات التشغيلية.

لا يختلف الوضع كثيراً في مراكز الرسم والموسيقى، ويلاحَظ أن النوادي والمعاهد التي ما زالت أسعارها “مقبولة” هي تلك التابعة لسفارات ومنظمات ثقافية دولية. تُخصص لهذه النوادي مداخيل شهرية من المنظمات والسفارات التابعة لها، أو أنها تتكفل بنفقاتها التشغيلية. رغم انخفاض هذه الأسعار، مقارنةً بنوادٍ أخرى، إلا أنها هي أيضاً باتت عصية على أصحاب المداخيل بالليرة اللبنانية، أبرزهم العاملين في مختلف قطاعات الدولة.

يشير مدرب الرقص المحترف وصاحب إحدى الأكاديميات، مايك بولاديان، إلى أنّ “كل خطوة إيجابية نخطوها، تقابلها خضة تعيدنا للصفر، آخرها الزلزال والهزات الأرضية”. يرى بولاديان أن الإحباط الذي يعيشه اللبنانيون لا يقل تأثيراً عن الأزمة الاقتصادية. العديد من المتدربين قلّل ساعات التدريب منذ بدء الأزمة واشتدادها خلال السنتين الماضيتين.

وفي حديثه إلى “المدن”، يضيف بولاديان: “يلجأ كثيرون إلى الصفوف الجماعية بعد ارتفاع التكاليف، والنفقات التشغيلية باتت مشكلة كبيرة على أصحاب النوادي، خصوصاً في فصل الصيف مع الحاجة للمكيّفات”. وبحسب مدرب الرقص، تعويض الخسائر اليوم يقوم على العروض التي تتم خارج لبنان، خصوصاً في مصر والعراق وبعض دول الخليج.

موسيقى فردية في الهرمل
“عدتُ إلى الهرمل في العام 2005 ولم ألمس أي تشجيع على الفن في المنطقة لأسباب عديدة، على عكس بيروت التي عشت فيها 15 عاماً”، يقول المدرب الموسيقي محمد قانصوه لـ”المدن”. منذ ذلك الحين، يعمل قانصوه في إحدى مدارس المنطقة إلى جانب بعض الدروس التي يعطيها للمتدربين في الهرمل ومناطق الجوار. بعد الأزمة “قررت، وبمبادرة فردية، تدريب أولاد المنطقة إيماناً مني بحقهم في إتقان الآلات التي يحبونها”، يضيف قانصوه.

لا دعم لمبادرة قانصوه، “آخذ معي غالونات مازوت من البيت، الأولاد لا يستطيعون تحمل الطقس البارد”. يتقاضى 500 ألف ليرة (أقل من ست دولارات بحسب سعر الصرف لحظة كتابة هذه السطور)، مقابل 12 ساعة تدريب في الشهر، ما يعني 41 ألف ليرة مقابل الساعة التدريبية، مقسمة على ثلاث ساعات كل يوم سبت. يدرّب حوالى 30 تلميذاً على مختلف الآلات الموسيقية، ويعتبر أن غياب الدعم عن مبادرته وأي مبادرة في المنطقة سببه غياب الثقة في الجمعيات التي تنهب المساعدات.

“أشعر بغصة كبيرة حين أرى زملائي في مواقع التواصل الاجتماعي يتقنون العزف، حلمتُ بأن أكون مثلهم”، قالها ميشال في ختام حديثنا معه. قد يتبادر إلى أذهان البعض أن الفن، باعتباره من الكماليات، لا يستحق الإضاءة على معاناة محبيه. إلا أن الفن بالنسبة لهؤلاء، هو العلاج لقسوة الواقع، وفقدانه يعني تضاعف الضيق في بلد الضيق.

المدن

مقالات ذات صلة