الدراما الجريئة تثير انقساما مجتمعيا في مصر

عكس الجدل الواسع الذي أثاره المسلسل المصري “أزمة منتصف العمر” عقب عرضه على منصة شاهد مؤخرا لأي درجة لا يتقبل كثيرون مناقشة الدراما لقضايا جريئة موجودة في المجتمع، لكنها مهملة فنيا.

تطرق العمل إلى كثير من الملفات المسكوت عنها في مصر وكسر تابوهات أو محرمات كان من الصعب على منتجي الدراما معالجتها أو التلميح إليها، خوفا من رد فعل المجتمع، الذي تعتقد شريحة كبيرة فيه أن التعرض إليها يمثل خرقا لثوابت رمزية وخطوط وهمية وضعها لنفسه وفقا لقناعاته الشخصية والدينية.

واتهم البعض من أعدوا مسلسل “أزمة منتصف العمر” بأنهم يتسببون في تهديد قيم الأسرة المصرية، لأنه تناول قضية جريئة تتعلق بإقامة علاقات محرمة بين أفراد العائلة الواحدة، وحتى لو كانت هناك وقائع فردية حدثت بالفعل لا يجب تسليط الضوء عليها ومناقشتها في عمل درامي من السهولة أن يتسلل إلى كل البيوت في مصر.

وتدور أحداث العمل في إطار اجتماعي حول زواج عمر (كريم فهمي) من مريم (رنا رئيس) وبعدها يقع عمر في حب فيروز (ريهام عبدالغفور) وكان يعتقد أنها والدة زوجته، ثم كشفت الأحداث أنها ليست والدتها، لكنها من تولت تربيتها منذ الصغر.

وفوجئ الجمهور بأن فيروز في أثناء لحظة ضعف تدخل في علاقة محرمة مع عمر، وتحمل منه، وفي نفس الوقت تحمل منه ابنة زوجها (أي أنه عاشر الزوجة وأمها)، ثم يتزوج والد مريم من صديقتها وتتوالى الوقائع المثيرة.

نجاح غير متوقع

أعلن منتجو المسلسل أنهم لم يتوقعوا نجاح العمل وارتفاع معدلات المشاهدة بشكل قياسي، في إشارة غير مباشرة إلى أن الجمهور رغم تحفظه على تناول مثل هذه القضايا الجريئة يقبل على متابعتها وينجذب إليها، وهذا في حد ذاته نجاح.

وجرى العرف في معظم الأعمال الدرامية في مصر ألا يتم التطرق إلى قضايا تندرج في إطار ما يعرف بـ”زنا المحارم” أو العلاقات الأسرية الشاذة ومناقشة تفاصيلها تصريحا أو تلميحا من باب ما يسمى بـ”المسؤولية الاجتماعية” لمنتجي الدراما.

وما يلفت الانتباه أن هناك شريحة كبيرة من الجمهور تتقبل عرض ومشاهدة أعمال درامية تناقش قضايا جريئة، وربما شاذة، تتعلق بمجتمعات أخرى أكثر تحررا وتتحفظ على تناولها فنيا بالإشارة إلى مجتمعاتها الأصلية.

فالأعمال التركية لا تعاني من أزمة مع بعض الجمهور العربي عند مناقشة قضية مثل زنا المحارم وإقامة علاقة عاطفية بين البطل وأخت زوجته، وقد تجذب هذه الأعمال فئة كبيرة من المشاهدين في مصر ويحرصون على متابعتها.

وتبدو مناقشة المسلسلات الاجتماعية للقضايا الجريئة ضرورة، لأن أحد أدوار الدراما تعرية المشكلات أمام الناس والبحث عن حلول لها والتحذير من الوقوع فيها من خلال قوالب فنية شيقة دون انصياع أو رضوخ لضغوط الرافضين من الفئات المحافظة.

وتعد عملية تعرية الانحراف أول مرحلة لمواجهة السلوكيات الشاذة والأفعال المنبوذة مجتمعيا، شريطة عدم التأثر مسبقا بردود الفعل السلبية، وهذا جزء أصيل من أدوار الفن والدراما ولا ينفصل ذلك عن حتمية اعتراف المجتمع بوجود مشكلة.

وقال الناقد الفني نادر عدلي إن تقبل المجتمع المصري لمناقشة قضية جدلية دراميا يرتبط بطرحها بعمق وعقلانية وسياق يلامس مشاعر الناس كي لا تتحول المشكلة إلى أزمة مع أبطال العمل فقط، ولا يُعقل تقديم عمل فني له ظل حقيقي في الواقع تأتي مناقشته بطريقة مواربة، في هذه الحالة لن يصبح مجديا.

وأضاف لـ”العرب” أن الانجذاب العربي إلى مسلسلات تركية ولبنانية جريئة يتعلق بأنها تلامس مشاعر الجمهور بواقعية وتحوي مشاهد عميقة ليختار بين النموذج الإيجابي والقاتم، وهذا غير موجود في غالبية الأعمال الدرامية المصرية، لأن منتجيها يخشون كثيرا الخوض في تفاصيل مثيرة تضفي مصداقية على محتوى العمل.

محرمات أم لا

هناك من تفاعلوا مع مسلسل “أزمة منتصف العمر” باعتباره لم يناقش قضية المحرمات العائلية بطريقة تحمل إباحة أو مشاهد مبتذلة، بل من خلال سياق درامي سريع وعميق وبلا عبارات وألفاظ خادشة وتركيز على الفكرة وأبعادها ومخاطرها.

وتظهر قيمة مناقشة الدراما لقضايا مجتمعية مسكوت عنها عندما تغيّر من أفكار الجمهور عنها، فكل من ارتكبوا العلاقة المحرمة في هذا المسلسل عاشوا حياة بائسة وتعيسة ولم يستمتع أيّ منهم بما فعل، وتلك رسالة مهمة في العمل.

وتؤكد أصوات مؤيدة لرفع الوصاية الأخلاقية من جانب المجتمع عن الدراما أن التركيز على المسلسلات الاجتماعية وإخضاعها لتحقيق أهداف معينة وتحميل كل عمل فني مسؤولية العواقب السلبية يسهم في مزيد من الضغط على منتجي الأعمال.

ويبتعد ذلك عن المنافسة بين المنصات والفضائيات التي تعرض أعمالا اجتماعية جريئة، لأن كل منبر يتبنى ثقافة الانفتاح ويصر على مناقشة القضايا المسكوت عنها ستكون له غلبة لأنه أخذ زمام المبادرة بجرأة وشجاعة ورفض الخضوع للوصاية.

مشكلة بعض من يتابعون الأعمال الدرامية أنهم يتعاملون بحساسية مفرطة مع كل عمل فني له طابع اجتماعي ويتطرق لموضوعات جنسية، مع أن نفس الشريحة تواجه بشكل يومي مشكلات واقعية من هذا النوع ولا تريد مناقشتها على الشاشات.

وثمة شريحة أخرى مناهضة لاحتكام الدراما إلى ثقافة وعادات وتقاليد المجتمع الذي تناقش قضاياه بذريعة وجود أبعاد دينية وأخلاقية يجب العمل في إطارها، مع أن هذه الأبعاد لو كان المجتمع يعترف بها ويحتكم إليها لما شهد وقائع شاذة يصعب تخيلها.

قناعات وتقاليد

ترى بعض الدوائر القريبة من جهات حكومية في مصر أن الدراما الاجتماعية الجريئة دخيلة وتروج لأفكار شاذة وقد تزرع في أذهان الجمهور قناعات تتناقض مع العادات والتقاليد المصرية.

ومع كل مشكلة أخلاقية أو واقعة مثيرة يشهدها المجتمع يتكرر النقاش حول العلاقة بين الفن والأفكار المنحرفة، وهي إشكالية جدلية لم يستطع الناس الخروج منها، وفي كل مرة تخرج طروحات تفسيرية تقوم بتعليق الحادث على شماعة الفن.

وأوضح عدلي أن وجود محاذير على العمل الدرامي غير المألوف أمر مطلوب ليكون هناك توازن بين حركتي الفن والمجتمع، ومع وجود خيط رفيع بين محاولة رفع الوعي تجاه قضية مسكوت عنها وبين تلفيق القضية للمجتمع تظل العبرة بمدى توافر عناصر جذب المشاهد إلى العمل الفني وملامسة وجدانه ومشاعره لإقناعه بالتجاوب مع القضية محل النقاش الدرامي.

ويبرر الكثير من رافضي الجرعة الدرامية الجريئة موقفهم بأن التأثير الذي يحدث للمشاهد من خلال الفن ورسائله مسألة محسومة وقوية، بينما يقول أصحاب الرؤية المقابلة إنه تأثير متغير ويتوقف على العديد من العوامل، بداية من النشأة الأسرية ونمط التربية والتعليم، وصولا إلى طبيعة القيم الدينية والمكونات البيولوجية.

وبغض النظر عن الأصوات المؤيدة والرافضة والمتحفظة على الجرأة الفنية، ليس مطلوبا من منتجي العمل الدرامي أن يجملوا صورة المجتمع ويبرزوا محاسنه كما تفعل بعض المسلسلات ذات التصورات الأمنية والسياسية لأن المسلسل الاجتماعي من واجبه معالجة المشكلات المسكوت عنها، اختيارا أو إجبارا، وتعريتها بجرأة.

وتؤكد توابع مسلسل “أزمة منتصف العمر” أن إقناع أي مجتمع يقدس التقاليد وتحركه الخطوط الحمراء من الصعوبة معالجته بجرأة فنية إلا إذا استوعب الناس أن هذا الفن نتاج للمجتمع، وكل قضية تتم مناقشتها نتيجة تفاعلات أكبر وأعمق من مشاهد درامية وبهدف تسليط الضوء على كل مشكلة يعيشها الناس ويغضون الطرف عنها.

العرب

مقالات ذات صلة