لبنان في مهبّ الفوضى المدمّرة: انهيارات إجتماعية وانفجارات أهلية!
دخل لبنان في منعطف جديد من الانهيار لم تعد تنفع معه كل المبادرات الداخلية والخارجية لتقريب وجهات النظر وإنجاز تسوية تمكّن من انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة والسير في الإصلاحات المطلوبة.
تعطلت مؤسسات الدولة اللبنانية كلها في ضوء الانهيار المتسارع، فسياسياً لا بحث في إنجاز الاستحقاقات على الرغم من حركة سفراء دول اجتماع باريس، والتلويح بفرض عقوبات على المسؤولين اللبنانيين. الواقع أن لبنان دخل في فوضى عارمة على وقع اشتعال سعر الدولار الأميركي مقابل الليرة، فيما الأوضاع الاجتماعية للبنانيين باتت تنذر بخطر انفجار أهلي يقود إلى توقف كل المرافق، وتعطيل مالي واقتصادي واجتماعي يطرح تساؤلات حول وتيرة التدهور ومن يستطيع إيقافه في وقت ينحصر التدخل الدولي في ملفات معينة تتشابك فيها مصالح معقدة ولا تؤدي إلى تشكيل قوة ضغط لحل الأزمة.
يقود التدهور المتسارع إلى تلاشي الدولة وغياب معالمها، فيما تصطف القوى السياسية والطائفية في بيئاتها منتظرة تغيّرات تعدل في موازين القوى من دون أن تنجرف إلى حرب أهلية. وذلك له أسبابه في ضوء الخلل في القدرات، حيث لا طرف داخلياً يمتلك فائض القوة التي يتمتع بها “حزب الله”. لكن ما يجري وسط الانهيار أكثر خطراً مع ارتفاع مطالب الفيدرالية أو أقله التمترس المذهبي في مناطق سيطرته. أمام كل ذلك لا يبدو التدخل الدولي عازماً على تغيير الوضع القائم، فلا تحرك جدياً يذكر بمراحل الأزمات الكبرى في لبنان خصوصاً في 2005 و2008 و2015، وبينها كلها الأزمات التي تناسلت من الحرب السورية التي اشتعلت في 2011 وانعكست تداعياتها على لبنان في مختلف المجالات.
تدخل الأميركيون بقوة في مفاوضات ترسيم الحدود ورعوا الاتفاق بين لبنان وإسرائيل من دون أن يتحركوا في ملفات أخرى، لكن الانهيار بدأ يولد شعوراً لبنانياً بأن البلد متروك لمصيره، ليخرج الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله بمواقف تصعيدية واتهامه واشنطن بأنها تعمل على نشر الفوضى في لبنان وأن لا أحد في الخارج سيتمكن من فرض انتخاب رئيس على اللبنانيين، داعياً إلى الحوار بين الأفرقاء للوصول إلى صيغة تفاهم. لكن للحوار أيضاً استهدافات لتكريس أمر واقع على الأرض، فيما لا أحد يكترث داخلياً للفوضى التي تهدد كل البنية اللبنانية ولا يتقدم بمبادرات جامعة قائمة على تنازلات بين الأطراف، إلا إذا كانت المحاصصة عنواناً أساسياً لتقاسم ثروات الدولة وتقسيمها بما فيها الأملاك العامة بحجة كبح الانهيار.
المشكلة الأساسية التي يعانيها لبنان للانتقال إلى مرحلة التعافي أو وقف الانهيار أن لا وجود لقوى بديلة بحاضنة شعبية قادرة على ممارسة دور أساسي في التغيير. لذا الساحة متروكة لأركان الطبقة السياسية التي حكمت لبنان من دون أن تكون قادرة على انتاج الحل، لا بل تغرق أكثر في الصراع والمحاصصات على حساب اللبنانيين ومصالحهم. وعلى هذا ثمة تساؤلات عمن يدفع الأمور في البلد إلى الانفجار، على الرغم من أنه لا يزال يقاوم الانجرار إلى الصراع الأهلي العسكري، لكن تسارع التدهور ومعه الفوضى قد يؤديان إلى حدوث صدمة تدفع إلى تغيير المسار، بصرف النظر ما إذا كان داخلياً أو خارجياً وإن كانت المؤشرات لا تدل على أن الحل قد بلغ النضوج الكافي.
وصلت الأزمة في لبنان إلى مرحلة كان يتوقعها كثيرون، وهي التأزم الذي لا يفضي إلى حل من دون ضغط خارجي، خصوصاً لعدم وجود بدائل وازنة، وهي تغييرية بالدرجة الأولى، فلا انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) تمكنت من تشكيل قوة دافعة بحاضنة شعبية تغير في المسار، ولا الانتخابات النيابية التي أجريت قي 15 أيار (مايو) 2022 أنتجت كتلة تغييرية قادرة على إحداث تغيير في التوازنات القائمة. وفي ظل عجز القوى الحاكمة لا سيما الأمر الواقع الذي كرّسه حكم ميشال عون بتحالفه مع “حزب الله” ودفع البلد الى تدهور متسارع، ارتدّت الأطراف إلى بيئاتها الطائفية ومناطقها مع محاولات العديد منها للتمدد في مناطق سيطرة الطوائف الأخرى، ما زاد من حجم الأزمة بحيث لم يعد أي طرف قادراً على إطلاق مبادرات جامعة، فتكرست الفوضى مع الانهيار والتفلت الذي بدأ يأخذ أبعاداً خطيرة، وبات الجميع يراهن على مرجعيته الخارجية لإحداث خرق يعدل موازين القوى القائمة والذي لا يمكن أن يحدث عسكرياً.
لكن الصدمة في الوضع اللبناني يمكن أن تكون لها ارتدادات إقليمية، والمؤشر واضح على ما أظهره كلام نصرالله الأخير في ذكرى “القادة الشهداء”، والذي أغفل صراعاته في الداخل عن سبب الأزمة مصعداً ضد الخارج وتحديداً ضد الولايات المتحدة. ووفق كلامه “في حال كان الأميركيون وجماعتهم يخططون للفوضى وانهيار البلد، فأنا أقول لهم أنتم ستخسرون كل شيء في لبنان، وأنتم خططتم لشيء مشابه في الماضي وخسرتم”. بالنسبة إليه هناك استهداف لبيئة المقاومة من خلال الفوضى، وليس للبلد و”عليكم أن تنتظروا الفوضى في كل المنطقة”.
تصعيد نصرالله يندرج في المسار الذي قد تذهب إليه الأمور في البلد، والصدمة المحتملة، فـ”القوى الخارجية لا تستطيع أن تفرض على اللبنانيين انتخاب رئيس”. وكل المشكلة أن لبنان يعيش تحت ضغوط أميركية كبيرة وفق نصرالله. ويظهر البعد الإقليمي لكلامه من خلال التهديد بأنه في حال حصل تسويف في استخراج النفط من المياه اللبنانية، “فإن “حزب الله” لن يسمح لإسرائيل بالاستمرار بالاستخراج من كاريش”، وهو ما قد يفتح على مواجهة جديدة تزيد من عمق المأزق اللبناني. ودعا لبنان إلى قبول المساعدات الإيرانية والقبول بالاستثمارات الصينية والروسية، وفي الوقت نفسه مواجهة محاولات إعادة لبنان الى السيطرة الأميركية.
على وقع كلام نصرالله قد يكون لبنان دخل في المرحلة الأخيرة من الانهيار، لكنها مرحلة قد تطول في انتظار تبلور وجهة دولية ضاغطة باتت السبيل الوحيد للخروج من المستنقع، وإلى أن نصل إلى ذلك ستستمر الفوضى الاجتماعية ومعها انفجارات أهلية تفكك ما تبقى من مؤسسات الدولة لتقضي على لبنان الذي نعرفه.
ابراهيم حيدر