زافين قيومجيان: لم أعد “سوبر ستار” … ولكن!
ليست سيرة زافين قيومجيان التلفزيونية قصة مراسل إخباري تحوّل إلى تقديم البرامج، وقد حقق حضوراً لبنانياً وعربياً واسعاً فحسب. لقد ارتبط اسم زافين بمحطات مهمّة في مسيرة التلفزيون المحلي والفضائي، وفي مسيرة لبنان.
فزافين الذي اختير ليكون الوجه الجديد لتلفزيون لبنان الموحَّد بعد الحرب، هو ذاك الشاب، الخريج الجامعي الجديد في العام 1992، الذي مثّل جيلاً جديداً ليحل بدل المذيعين الذين وزّعتهم الحرب على متاريس الوطن المقسّم. وقد اختار هذا المراسل والمذيع الإخباري ومقدّم البرامج الدولة وتلفزيونها، في حين كان المشهد للقنوات الناطقة بلسان الميليشيات وأصحاب رؤوس الأموال.
وهو الشاب اللبناني من أصل أرمني الذي لا يهوى ولا يستسيغ الإطلالات التي لا تخرج عن النص.
وإذ قدّم على شاشة الدولة برامج حرة ومنوّعة وجديدة، ارتبط انتقاله إلى تلفزيون المستقبل ببدء زمن الفضاء العربي. وعلى هذه الشاشة، ارتبط اسم زافين بما يمكن وصفه بـ”صاحب أول مرّة”. فهذا “الكائن التلفزيوني” رائد في إطلاق موجات على الشاشة الصغيرة، على صعيد البرامج والتقديم، مستثمراً إدمانه مشاهدة صندوق الفرجة العالمي والتقاط حركات واتجاهات وعناصر تغني اللعبة التلفزيونية.
ومع التحدّي الذي طرحه “الأونلاين” على التلفزيونات وجيل زافين، بادر ليكون جسراً بين الفضاءين القديم والجديد وأجيالهما.
هذه المسيرة الريادية أهّلته ليكون صاحب تجربة جديدة في الفضاءين، إذ يستعد لبرنامج يُعرض على شاشات محلية عدة، وعلى الإنترنت، في الوقت نفسه.
معه هذا الحوار عن تجربته.
مثلما تفعل دائماً، خصوصاً في كتبك الخمسة، إذ تبحث عن زمنين لأي شيء، وتتحرى أحواله وتغيراته في الزمنين، لبنان إبان الحرب وبعدها مثلاً، تبدو أنت شخصياً بين زمنين، زمن التلفزيون الماضي وزمن الإذاعة واليوتيوب الآن؟
هناك دائماً محطات في حياتي، ودائما أعرف كيف أُنهي محطات بشكل لا يجعلني أبقى في مكاني. أجرب دائماً أن أجدد نفسي. التجديد هو الانتقال إلى محطة أخرى. وأنا أقرأ الحياة من خلال أجيال. فلسفتي في الحياة تقوم على تفسير كل شيء من خلال العمر والزمن وليس من خلال الإيديولوجيات أو القوميات أو الهويات. وللصدفة، دائماً في مسيرتي المهنية كنت وجهاً لمرحلة جديدة، وكنت قادراً على أن آخذ الخطوات الأولى لدخول مراحل جديدة. بالنسبة إلي كانت دائماً مشاريعي صغيرة، هي أشبه بمغامرات شخصية سمحت لي المؤسسات التي عملت فيها أن أخوضها من دون أن تتحمل هي تبعات فشلي. لذلك، لم تكن رهاناتي كبيرة و”لم أكبّر الحجر”… حرصت على أن أحافظ على هامش من الحرية… وأساساً، ولا مرة كنت “سوبر ستار” المحطة التي عملت فيها.
هل يمكن أن تذكر محطات؟
مثلاً الدولة اللبنانية تريد أن تنتقل من الحرب إلى السلم، بحاجة إلى وجه جديد لتلفزيون لبنان يكسر الصورة النمطية المبنية على الوقار والمذيع الأربعيني الحكيم والفهيم، لذلك وقع الاختيار عليّ لأكون الوجه الجديد للمحطة، التي كانت توحّد قنواتها كخطوة أولى على طريق توحيد لبنان بعد الحرب.
المحطة الثانية كانت في بداية الألفية مع انتقال الإعلام اللبناني إلى مرحلة الفضاء. آنذاك، كانت نهاية تجربة تلفزيون الدولة وانتصار الإعلام الخاص. وبما أن لكل دولة رجالها، وبعد أن أرسلني الرئيس إميل لحود إلى البيت، انتقلت إلى تلفزيون المستقبل الذي سبقني إليه زملائي وزميلاتي في الجامعة. وفرصة انتقالي إلى “المستقبل” كانت متاحة قبل ذلك، لكنني اخترت خيار الدولة. أخذت هذا القرار حين كان الخيار بين تلفزيون الدولة أو تلفزيون خاص. وأذكر أنني التحقت بالعمل في تلفزيـــــون “المستقبل” لمدة أسبوعين عــام 1992، لكنني تراجعت واخترت الدولة.
هل كان ذلك خياراً مقصوداً وواعياً وسياسياً؟
أنا دائماً أربط نفسي بشيء أكبر… بفكرة أكون مقتنعاً بها. أنا في الإعلام ابن الإعلام المجتمعي المسؤول. لست في الإعلام لتحصيل المال لمصلحتي أو للمحطة. أنا في الإعلام لأن لديّ ما أخبره وأشارك فيه الآخرين. لديّ حس المسؤولية الاجتماعية بالتعاطي مع الإعلام. وبرامجي كانت دائماً البرامج المختلفة التي تمنح المحطة وجهاً جميلاً.
لكن، كيف تقرأ تجربتك عربياً، خارج لبنان؟
أزعم أنني ساهمت في نقل التنوّع اللبناني إلى الشاشة، إلى الفضاء العربي. ربما رأى الخليج فيّ وجه الحداثة الذي أَحبّه، لأنني أنغلوفوني ومنفتح واسمي زافين وعلى قناة “المستقبل” التي يثق بها. وقد أكرمني الجمهور العربي عموماً والخليجي خصوصاً، كما أكرم الإعلام اللبناني ككل، لأنني قدّمت مضموناً اجتماعياً حتى في المواضيع المحرمة التي تناولتها بطريقة غير مستفزة. لهذا، يعتبر كثيرون أن ما جاء بعدي هو تقليد لبرنامجي، إنما غالباً ما جرى التعاطى مع المواضيع بطريقة فضائحية.
هذا الزمن انتهى، وجاء زمن آخر… ماذا فعل زافين؟
مع مغادرتي تلفزيون “المستقبل” دخلت مرحلة جديدة، هي انتهاء الإعلام التقليدي وبداية “الأونلاين”. وبما أنني أمثل “اللابتوب” الأول والرسالة البريدية الأولى على الشاشة، والبث الرقمي الأول، رشّحت نفسي لأكون المخوّل من جيلي للإقدام على الخطوة الأولى من التلفزيون نحو الإعلام الرقمي.
وكيف دخلت هذا العالم الجديد؟
لم أدخل “الأونلاين” بصفتي نجماً، دخلته كأبٍ، والأب ليس جذاباً إلا لهواة النوع. أنا فخور بأنني الوحيد من جيلي الذي تمكن من القيام بهذه الوثبة. قدّمت برامج “أونلاين” عدة، وهناك كثير من التجارب الآتية على الطريق.
كيف تقيّم تجربة الأب على “الأونلاين”؟
لـ”الاونلاين” نكهته وشروطه الخاصة… وأحاول أن أعمل في فضائه بشروطه وليس وفق مقاييس التلفزيون. لذلك، أسلم نفسي لجيل أصغر من الصحافيين الذين أحاول فهمهم، كما أحاول نقل تجربتي وتجربة جيلي إليه، لربما تكون هذه المصالحة بين الجيلين علي يدي. وأهم ما في الموضوع هو أنني أحاول ألا أكون “متصابياً” يحاول تحقيق الذات.
هل شعرت بأنك متقدم بالعمر؟
أكيد، وهذا أمر طبيعي. العالم يحتاج اليوم إلى جسور اتصال وتواصل بين الأجيال. أحاول أن أكون جسراً بين جيلين وإعلامين وعالمين، لا يمكن أن يجتمعا إلا لصناعة الفكاهة. أريد أن أكون عامل جمع لأبني مستقبلاً يتسع للجميع وليس لرصد المفارقات وبناء المتاريس.
أعرف أنك كنت قلقاً على مكانك وموقعك واستمرارك!
أجل قلقت، وتزامن ذلك مع الانهيار الكبير الذي نعيشه. كانت نهاية مرحلة لي وللبلد… وعندما حددت موقعي ارتحت. لم أتصرف كنجم، ولم أقل على “الأونلاين” أسعد الله مساءكم. أنا اليوم لست أسعد الله مساءكم. لا يمكنني أن أكون رجل الغلاف، لست البطل الأول، لست العشيق، أنا أب العشيق أو خاله الذي يساعده… وبذلك أحاول أن لا أكون الجار الذي يبتعد عن الشر ويغني له!
والآن، هل أنت قلق على مكانك ومستقبلك؟
نعم ولا… سابقاً، كنا نقدم برامج يشاهدها 40 مليون شخص، الآن لا أحد يجمع هذا العدد في ساعة واحدة… لا هنا ولا في أميركا. لكل منصة خصوصيتها وشروطها. وكلنا يحاول فهم التكنولوجيا ومتطلبات الجمهور.
كيف تصف المشهد التلفزيوني العربي؟
تجربة التلفزيون العربي أمام مفترق طرق… وربما تكون انتهت. ففي الوقت الذي تحاول فيه المؤسسات التلفزيونية العربية التأقلم مع التكنولوجيا الحديثة وأنماط العيش الشابة، تسعى لتكون محلية التوجه أكثر مما تسعى ليكون لها وجه عربي كما درجت العادة في بداية الألفية والزمن الأول للعولمة. ويجب أن لا ننسى أن التوجه إلى الفضاء العربي الواسع هو حاجة اقتصادية لإعلام الدول الصغيرة مثل لبنان، بينما هو حاجة سياسية للدول العربية الأكبر. لذلك، العملية معقدة وأخشى ان زمن الـ”بان آراب” انتهى، والدليل برامج من نوع “سعودي آيدل” بديلاً من “أراب آيدل” أو “سوبر ستار”.
وسط هذا أين لبنان ودوره؟
لبنان خسر الدور والحضور والمعنى. لبنان لم يعد رسالة ولم ينجح في صناعة تجربة وطن… لا يكفي الطقس المعتدل في أن يصنع وطناً. وكذلك الأغاني الجميلة ليست كافية. فشلنا في أن نكون رسالة، فلنكن درساً، أفضل ما يمكن أن نقوم به هو أن نكون درساً.
مقدّم البرامج ينحاز للكتابة والحس البحثي
عُرف زافين قيومجيان مقدّماً للبرامج التلفزيونية، إنما ثمة وجه آخر بقدر ما استفاد من نجومية مقدم “سيرة وانفتحت” خفت الضوء عليه، وهو تأليف الكتب.
يصف زافين تأليف الكتب بالهواية. ويضيف إلى هذا الشغف الشخصي أنه يكتب ذاكرة، وأنه يملك حساً بحثياً، و”هذا الحس البحثي الذي استعملته في التلفزيون، ارتقيت فيه إلى ما هو أكبر من العمل التلفزيوني، فعندها رأيت أن مكانه الكتاب”.
وهل الكتابة، بالنسبة إلى شخص محترف في العمل التلفزيوني وأمضى قسماً كبيراً من حياته أمام الكاميرا وعلى الشاشة، أكبر من العمل التلفزيوني؟
يجيب: “أجل، طبعاً، الكتابة مبلورة أكتر، وتبلور البحث والشخص، وهي لهذا تستغرق وقتاً وجهداً أكثر. وهذا ما أفعله مع كتبي”.
لزافين خمسة مؤلّفات حتى الساعة، هي:
“لبنان فلبنان”: نُشر بطبعات أربع أولها في 2002 وآخرها في 2020، وقد أجرى تنقيحات وتعديلات جوهرية عليه وصدر عن “دار هاشيت أنطوان”. وهو من الكتب الأكثر مبيعاً منذ صدوره الأول عن “دار النهار”. في طبعته المحدثة يجمع أشهر صور الحرب الأهلية اللبنانية ويقدمها تاريخاً بصرياً جديداً للبنان قبل وبعد وبعد البعد. ويعتبر هذا الكتاب واحداً من اشهر الأعمال الفنية التي تؤرخ للحروب الأهلية في العالم، وقد أدرجته صحيفة “نيويوك تايمز” ضمن الكتب التي يجب الاطلاع عليها لفهم لبنان.
“شاهد على المجتمع”: يجتمع فيه زافين والمعالجة النفسية دولي حبّال ليقدما خلاصة تجربة برنامج “سيرة وانفتحت” دليلاً علمياً موسوعياً، ويجيب على هواجس الجسد والروح والمجتمع (أكاديميا للنشر، 2015).
“أسعد الله مساءكم”: يتناول تاريخ التلفزيون اللبناني وأبرز تحوّلاته من خلال مئة لحظة تلفزيونية صنعت الفرق ودخلت الذاكرة الشعبية. كتاب أشبه بصندوق ذكريات التلفزيون اللبناني في مرحلة التأسيس الأولى ومن العصر الذهبي إلى زمن الحرب (دار هاشيت أنطوان، 2015).
“لبنان على الشاشة”: هذا الكتاب الصادر عن “دار هاشيت أنطوان” في 2016 هو الأول من نوعه باللغة الإنكليزية، يروي حكاية التلفزيون اللبناني من منظور عالمي، بهدف نقل التجربة إلى العالم، لتكون جزءاً من قصة التلفزيون العالمي.
“كيف ما كنت بحبك”: من الهوليداي إن وأهراءات بيروت إلى برج المرّ وقبضة الثورة ومبنى البيضة، جولة غير رسمية وغير مرخصة تحكي حكاية مدينة بيروت عبر 12 معلماً من الباطون والرصاص والحنين.
نداء الوطن