الخيارات في الميدان المسيحي ضيّقة… رجال القصر: عونيون يحيطون بعون!

في بيت صغير في منطقة سن الفيل، علّقت ربّة المنزل صورة على طول الحائط للعماد ميشال عون لما له من منزلة خاصة لديها ولدى عائلتها، خصوصاً ابنها المنخرط في السلك العسكري منذ الثمانينيات والمعجب جداً بأسطورة لـ«الجنرال». منذ عودة الرئيس ميشال عون من منفاه عام 2005، واظب الضابط جوزيف عون على زيارته في منزله في الرابية، ونمت بينهما علاقة ودّ وصداقة مهّدت لوصول عون الضابط إلى اليزرة مع وصول عون الرئيس إلى بعبدا، في واحدة من المرات القليلة التي يخالف فيها الجنرال نصائح رئيس التيار الوطني الحر والرجل الأقرب إليه جبران باسيل.
تمتّنت العلاقة بين «العونين» وعائلتيهما سريعاً، ولأن رئيس الجمهورية السابق يغلّب العاطفة على ما عداها، وثق بقائد الجيش ثقة عمياء ولبّى كل طلباته ولا سيما رغبته بتعيين صديقه طوني منصور مديراً للمخابرات بدلاً من طوني قهوجي «للمحافظة على تجانس الفريق»، رغم أن منصور كان يحظى بدعم أميركي واضح. ولكن، لأن القائد كان أكثر براغماتية من رئيسه، فإنه لدى تخييره بين الوفاء لعونيته أو دخول نادي المرضيّ عنهم أميركياً، لم يتردّد في التوجه غرباً.
فالسقف الذي يمكن بلوغه إلى جانب ميشال عون بلغ مداه بتعيينه قائداً للجيش، وثمّة سقوف أخرى يصعب بلوغها من دون الانفتاح على القوى السياسية المحلية من جهة وعلى الأميركيين من جهة أخرى.
فبدأت المشكلات تتراكم، من التعيينات العسكرية إلى مسايرة الأحزاب الأخرى على حساب التيار ورئيسه، إلى أن بلغت نقطة اللاعودة مع اندلاع انتفاضة 17 تشرين 2019. في واحدة من الزيارات القليلة لقائد الجيش إلى القصر الجمهوري من دون منصور، بناءً على طلب رئيس الجمهورية بعدم حضور الأخير، عبّر الرئيس عون عن سخطه وعتبه الشديد لعدم ورود أي تقرير من مديرية المخابرات حول تحركات شعبية مرتقبة أو أي تحذير مُسبق. وانكسرت الجرّة بالكامل عند طلب الرئيس من القائد إعطاء أوامر بعدم السماح بإغلاق الطرقات فلم يستجب لطلبه.
رغم الخلاف العوني – العوني فإن عون الثاني الذي طالما كان محسوباً من الضباط العونيين لن يأتي سوى بمن يدورون في الفلك نفسه
وعندها كان الفراق. خسر الرئيس اليرزة وفاز القائد بتمديدين، بضغط أميركي لم يضطره معه إلى زيارة أيّ من الزعماء السياسيين، قبل أن يأتي بالطريقة عينها إلى قصر بعبدا.
رغم الخلاف العوني – العوني، فإن عون الثاني الذي طالما كان محسوباً من الضباط العونيين، لن يأتي سوى بمن يدورون في الفلك نفسه، إذ إن الخيارات في الميدان المسيحي ضيّقة، فإما أن تكون «عدة الشغل» أقرب إلى العونيين أو إلى «القوات اللبنانية». ورغم أن سمير جعجع يقدّم نفسه «عرّاب» وصول عون إلى كرسي بعبدا، إلا أن العلاقة بين الرجلين لم تستوِ منذ معركة أدما بين القوات والجيش عام 1990، وهي أولى المعارك الميدانية التي خاضها عون واستشهد فيها كل رفاقه بمن فيهم قائد السرية الثانية في المغاوير بسام جرجي ليُعيّن الملازم أول عون يومها خلفاً له.
مع وصول جوزيف عون إلى قيادة الجيش، بقيت العلاقة مع جعجع ضبابية. ويُنقل عن الأخير قوله إن كتلته النيابية تقدّمت باقتراحَيْ قانون للتمديد لعون قائداً للجيش، من دون أن يكلّف الأخير نفسه يوماً عناء اتصال هاتفي للشكر. كما أبلغ الموفد السعودي يزيد بن فرحان وغيره من الموفدين عن صعوبة انتخاب كتلته شخصاً لا يتواصل معه ويرفض رؤيته، قبل أن يذهب إلى انتخابه مرغماً.
وعلى المنوال نفسه، يبدو أن فريق المستشارين لا يستسيغ كثيراً قائد معراب. فمشكلة القوات الدائمة كان اسمها جان عزيز الذي يتربّع اليوم على رأس هذا الفريق مستشاراً سياسياً لرئيس الجمهورية فضلاً عن مساهمته في اختيار غالبية المستشارين.
وهو شغل المنصب نفسه في أول عهد الرئيس ميشال عون الذي كانت تجمعه به علاقة متينة تعود إلى علاقة عون بأفراد لقاء قرنة شهوان الذي كان عزيز عضواً فيه. وكان للأخير تأثير كبير على أدبيات التيار الثقافية والفكرية حول الحريرية السياسية، فضلاً عن شغله منصب مدير تلفزيون «أو تي في» عند إنشائه، قبل أن يقع الخلاف ليس جرّاء اختلاف سياسي، بل نتيجة خلاف بين عزيز والنائب الياس بو صعب، ووقوف الرئيس عون والنائب باسيل في صفّ بو صعب.
ولكن، حتى بعد الافتراق، بقيت العلاقة مع عون بعيدة عن التصعيد المباشر سواء في الإعلام أو الصالونات الضيقة.
وإلى عزيز، يد عون اليُمنى، أتى رئيس الجمهورية إلى القصر باثنين من أعزّ أصدقائه: العميد المتقاعد وسيم الحلبي الذي انتقل من إدارة مكتبه في اليرزة إلى إدارته في بعبدا، ومدير المخابرات السابق العميد طوني منصور مستشاراً للعلاقات الدولية ولا سيما الأميركية. كذلك عيّن عون شقيق زوجته العميد المتقاعد ديدي رحال مستشاراً أول له، علماً أنه تولى سابقاً مسؤولية أمن ميشال عون في الرابية. وتشير معلومات إلى أن الصراع بدأ مبكراً على إدارة أمور القصر بين المستشار السياسي (عزيز) والمستشار الأول (رحال) ومستشار العلاقات الدولية (منصور).
«الحردانون»
وفيما استقدم عون إلى القصر غالبية من أحاطوا به في السنوات السبع الماضية، إلا أنه خلّف كثراً وراءه من دون معرفة الأسباب الحقيقية سوى ما يسوقه بعض هؤلاء في مجالسهم من اتهامات لعزيز بإقصائهم، على رأس هؤلاء المستشارة الإعلامية السابقة للقائد رونيت ضاهر التي رافقته منذ النهار الأول لوصوله إلى قيادة الجيش، وتجمع بينهما معرفة قديمة منذ أيام خدمته العسكرية في بلدة القليعة الجنوبية، مسقط رأس الضاهر. وهي بعدما توجّهت في اليومين الأولين من الولاية إلى القصر، أُبلغت في اليوم الثالث بأن لا مكان لها هناك من دون أن تتمكن من مقابلة الرئيس.
وهناك أيضاً مدير مكتب القائد العميد عماد خريش الذي كان يشكّل مع عون ومنصور «تريو» يهابه الجميع. ويتردّد أن خريش أُفهم بأن مكانه في وزارة الدفاع وأنه غير مرشّح لقيادة الجيش. وفي اللائحة أيضاً المدير العام السابق لوزارة الإعلام محمد عبيد الذي يتحفّظ عن الكشف عن سبب عدم مرافقته لعون إلى بعبدا، مشيراً في مجالسه إلى أنه لم يكن مستشاراً للقائد إنما صديقه وبالتالي لن يأتي إلى القصر بصفة مستشار بل سيبقى صديقاً يحضر عند الحاجة إليه.
إلى ذلك، استعان عون أيضاً بمكتب الاستشارات القانونية الذي كان يواكبه في اليرزة. فاستقدم المحامي ربيع الشاعر مستشاراً للشؤون القانونية. والأخير ترشّح في الانتخابات النيابية الأخيرة عن المقعد الماروني في البترون ضمن ائتلاف «شمالنا»، وهو ناشط في تأسيس جمعيات مثل «سكّر الدكانة» و«لابورا» و«مهارات»، وكان من وجوه انتفاضة 17 تشرين من دون أن يأخذ موقفاً متطرفاً، فحافظ على شبكة علاقات مع مختلف القوى والأحزاب.
واستُحدث منصب المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية وسُلّم للإعلامية نجاة شرف الدين التي تجمعها وزوجها الوزير السابق غازي وزني علاقة صداقة متينة بعزيز وزوجته. ذلك لا يلغي أن عزيز اختار الأفضل بين أصدقائه لهذا الموقع، فشرف الدين بين قلة قليلة من الإعلاميات اللواتي استطعن الحفاظ على الاحترام المهني بحيث لا يمكن الوقوع على أي خطأ لها سواء في عملها أو على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد أقامت شبكة كبرى من العلاقات في الوسطين الإعلامي والسياسي، ولم تنجرّ إلى «التخبيص» الذي تشتهر به زميلات لها، ومن دون أن يجعلها ذلك «حيادية» في موقفها السياسي والوطني.
وتسلّمت هلا عبيد منصب مديرة مكتب السيدة الأولى نعمت عون، وهي ابنة الوزير والنائب الراحل جان عبيد الأقرب إلى والدها والأكثر تأثّراً بأفكاره الوطنية، إلى جانب كونها ماكينة علاقات عامة.
وتجدر الإشارة إلى أن كل المستشارين وقّعوا عقود عمل قيمتها الإجمالية ليرة لبنانية واحدة، وسط حديث عن حصول حلقة ضيقة على «دعم» مالي خارجي من أحد رجال الأعمال اللبنانيين في واشنطن.
«الباقون»
في موازاة ذلك، حافظ رئيس الجمهورية على بعض من «سكنوا» القصر على مرّ عهود، كرئيس مكتب الإعلام في القصر رفيق شلالا الذي يشغل هذا المنصب منذ أكثر من 20 عاماً، ويُشهد له بمهنيته وموضوعيته وقدرته على القيام بمهمته بعيداً عن التموضعات السياسية والنكايات الإعلامية، والمدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير الذي عُيّن في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان وبقي في منصبه نفسه في عهد الرئيس السابق ميشال عون، علماً أن موقعه من أهم المواقع في القصر نتيجة دوره وحضوره كل الاجتماعات بما فيها مجلس الوزراء.
كذلك لا يزال المدير العام للمراسم والعلاقات العامة نبيل شديد الذي تسلّم هذا المنصب عام 2017 في موقعه، وهو من المقرّبين من باسيل. ويتردّد أن الرئيس قرّر إبقاءهم في مناصبهم بناءً على نصيحة مقرّبين للاستفادة من خبراتهم، ولقدرتهم على التأقلم مع كل العهود. وعلمت «الأخبار» أن عون جمع شلالا وشقير وشديد بحضور العميد الحلبي وأبلغهم تمسكه بهم، داعياً إياهم إلى العمل بمهنية بما تقتضيه مناصبهم الإدارية.
هل يرث عون الثاني، عون الأول؟
خلافات عون مع باسيل جذبت إليه كل الحردانين من التيار الوطني الحر ورئيسه، ومنهم من متّن صداقته بالقائد وانتقل معه إلى بعبدا. ومن بين هؤلاء، يضم فريق الرئيس الحالي مستشار ميشال عون السابق للشؤون الأميركية طوني حداد الذي كان من الناشطين الأوائل في اللوبي العوني في واشنطن. لكن ساءت علاقة حداد بكل من عون وباسيل بعد خلافه مع بو صعب حول ملف ترسيم الحدود البحرية وتسليم المهمة يومها للأخير، فاختار حداد الانسحاب.
ومن بين أعضاء الفريق الاستشاري الرئاسي الحالي مستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدبلوماسية ميشال دوشدرفيان، وهو من الرعيل العوني الأول الذي رافق عون ثم باسيل، وتولى المنصب نفسه في عهد الرئيس السابق، وكان مسؤول العلاقات الدبلوماسية في التيار الوطني الحر إلى أن قدّم استقالته من لجنة العمل الدبلوماسي في التيار عام 2020 من دون أن يعادي مسؤولي التيار أو قاعدته، بل لا يزال يحافظ على صداقته معهم.
كما عيّن عون مستشارة لكل ما يُعنى بوزارة الخارجية والسفراء هي جان مراد التي سبق أن شغلت منصب مندوبة لبنان السابقة في الأمم المتحدة قبل أن يتخذ وزير الخارجية السابق عبدالله بو حبيب نهاية عام 2023 إجراء تعسفياً بحقها ويستدعيها إلى بيروت نتيجة اتخاذها موقفاً مسانداً لحزب الله عبر الاعتراض على صيغة قرار التجديد لقوات اليونيفل كما كان يجري الإعداد لها في الدوائر الغربية. ولأن مراد عونية، تسبب موقف عبدالله بمشكلة حادة بينه وبين التيار وصولاً إلى مقاطعته.
كذلك تسلّم فرحات فرحات مسؤولية المستشار الاقتصادي في القصر، وهو عُيّن سابقاً أميناً عاماً لمجلس الخصخصة من حصة التيار الوطني الحر وسط اعتراض وزراء المردة يومها على تعيينه بسبب شراكته السابقة في إعداد القرار 1559 وقانون محاسبة سوريا.
والثابت أن هؤلاء جميعاً لا يزالون على تواصل إيجابي جداً مع العونيين سواء أكانوا نواباً أم وزراء سابقين أم رؤساء بلديات وغيرهم، لذلك لا يرى التيار في تعيينهم إجراء موجهاً ضده رغم كل الحديث عن نية عون الثاني الإمساك بكل إرث التيار. فهؤلاء لم يكونوا يوماً مفاتيح انتخابية أو مُنَخِّبين أو من كبار الناخبين في التيار، وبالتالي لا قدرة لديهم على اللعب في الملعب العوني الانتخابي.
والواضح أن طموح الرئيس عون لا يقرب إلى بناء حالة سياسية وإلا لكان استفاد من موقعه السابق كقائد للجيش لبناء شبكة من العلاقات المنتجة انتخابياً ومناطقياً. وهو منصب انتخابي أهم بأضعاف من منصب رئيس الجمهورية لناحية استقطاب رؤساء البلديات ومن يشغلون مواقع المسؤولية، ذلك لأن الخدمات التي يحتاج إليها هؤلاء يمكن تلبيتها من الموقع السابق أكثر مما يمكن أن يقدّمه الساكن في قصر بعبدا. ولكن عون لم يطرق بابهم عندما كان قائداً للجيش ولن يطرقه بالتأكيد اليوم كرئيس للجمهورية. كما لم يطرق باب الأحزاب السياسية على اختلافها واستطاع تجنّب لعب الدور التقليدي القاضي بالمرور برؤساء الأحزاب للوصول إلى كرسي الرئاسة متسلّحاً بالرغبة الخارجية في إيصاله.
**********************************
الدستور بحماية عون
كلّف رئيس الجمهورية جوزيف عون المدير العام لرئاسة الجمهورية أنطوان شقير التواصل مع مجموعة من الدستوريين والقانونيين من بينهم نواب ووزراء سابقون وقضاة ليكونوا أعضاء ضمن لجنة أطلق عليها تسمية «اللجنة الاستشارية الدستورية والقانونية لرئيس الجمهورية»، ضمّت الوزراء السابقين سمير الجسر وخالد قباني ورشيد درباس، القاضي غالب غانم، القاضي شكري صادر، العضو السابق في المجلس الدستوري أنطوان مسرة، الأستاذ في كلية الحقوق في الجامعة اليسوعية فايز الحاج شاهين، المحامي ميشال اقليموس، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية وليد صافي، المحامي وليد داغر والمحامي أنطوان صفير.
وقد عقدت اللجنة أول اجتماعاتها منذ نحو أسبوع في قصر بعبدا وأكّد الرئيس عون أمام أعضائها رغبته في تطبيق الدستور وسدّ ثغراته وإعادة النظر في كل الشؤون الدستورية والقانونية لمساعدته على حماية الدستور. ودعاهم إلى وضع خطة عمل واقتراحات لمواكبة خطاب القسم والمساعدة على وضع تفسيرات واضحة ودقيقة لما جاء في دستور الطائف. وبحسب المعلومات ستجتمع تلك اللجنة مرة في كل شهر.
رلى ابراهيم – الاخبار