المفاوض اللبناني يمثل “الحزب” وبالتالي يمثّل إيران: بعد الحرب السلاح في خدمة الدور السياسي
هناك من يستفزّهم مصطلح “لبنان ما بعد حزب إيران/ حزب الله” لأنهم حشوا رؤوسهم وعقول صغارهم وجيلهم الطالع بـ “ثقافة فوقية” و”فائض قوّة” مستندَين الى سلاح غير شرعي أُشهر ضد اللبنانيين جميعاً، بمن فيهم جمهور الحزب وبيئته الحاضنة. ورغم أنهم يرون اليوم بأم العين، وليس بادّعاءات خصوم “الحزب”، الى أين قادهم هذا السلاح، وإلى أين قادهم الولي الفقيه الذي وفّر هذا السلاح ليكون “الحزب” بيدقاً يحرّكه في مشروعه الإقليمي، فإنهم يصرّون على المكابرة بأنه “سلاح مقاومة” ويجب أن يُعترف له داخلياً وخارجياً بـ “حقّه” في الاستئثار بحكم لبنان وبقرار الحرب والسلم. ولأنه سلاح في خدمة إيران أولاً وأخيراً فلم يكن مُتوقّعاً أن يحمي لبنان أو أن يشكّل “ردعاً” حقيقياً للعدو الإسرائيلي، لأنه ببساطة لم يشأ أن يعترف بـ “موازين القوى” أو ربما اعترف بها لكنه اعتقد أنه يمكن أن يعادلها بحمولته العقائدية.
أحد أهم المآخذ، وأكثرها صدقية، على مفاوضات وقف اطلاق النار مع الوسيط الأميركي، أن سرّيتها تذكّر بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية وأن فيها ما يُراد اخفاؤه على اللبنانيين. ثم ان المفاوض اللبناني يمثل “الحزب” وبالتالي يمثّل إيران قبل أن يمثّل لبنان، ولذلك فإنه محكوم بأن يراعي حرص “الحزب” على الخروج من الحرب بكامل هيبته وسطوته وسيطرته (على البلد)، بدل أن تكون أولوية الأولويات عند هذا المفاوض أن الخروج من الحرب يجب أن يعني بالضرورة العودة الى لبنان- الدولة. لا شك في أن الخلط بين الدولة و”الحزب” يترك لبنان بلا مصداقية في أي مفاوضات، ولا يمكن أن يوحي بالثقة بأنه قادرٌ فعلاً على تنفيذ التزاماته. وإذا كان المفاوض اللبناني يجادل ويناور لتحديد سقفٍ للخسائر وللحصول على وقفٍ للقتل والدمار، متسلّحاً بأن “الحزب موافق”- (مشكوراً)- على وقف النار، فإن إعلام “الحزب” وأبواقه المعادية للجيش لا تلبث أن تكشف الحقيقة: فـ “الحزب” يبدي انحناءً كاذباً للعاصفة لكنه لم يبدّل شيئاً من اقتناعه المتكلّس باستئناف التسلّط على لبنان واللبنانيين.
لا ضرورة لنعي “الحزب” وإعلان نهايته أو الدعوة الى دفنه، فهو موجود وباقٍ، سواء أحببنا أو كرهنا، إذ ان لديه مريدين وأتباعاً خسروا اليوم بيوتهم وأرزاقهم، كما أنه بنى شبكات من الفاسدين والمستفيدين والكبتاغونيين، ومن شأنه أن يقدّر الآن الى أي حدّ سيبقون موالين له إذا خسروا مصالحهم. ورغم أن مقاتليه خاضوا مقاومة مشهودة ضد العدو في بلدات الحدود الجنوبية إلا أن “منع العدو من تحقيق أهدافه” لا يشكّل “انتصاراً” كما حاول نعيم قاسم اقناعنا به، بل ان الدمار الواسع الذي أحدثه العدو في الجنوب والضاحية وبعلبك- الهرمل ومناطق أخرى يعني أن “الحزب” فشل في أن “يحمي”، وأنه ذهب الى مغامرته العسكرية ضد إسرائيل ولم يستطع أن يحقق ما وعد به نفسه وجمهوره وحتى إيرانه. إذا لم تكن هذه هزيمة فما عساها أن تكون؟ لم يعد في إمكان البروباغندا أن تغيّر الواقع أو أن تغطّيه.
يُفترض أن يكون “الحزب” قد بدأ، ولو تحت النار، مراجعة عميقة وسريعة، كي يتمكن من التكيّف مع ما فرضته الحرب عليه وعلى لبنان من تغيير قسري، ومن استحقاقات وتحدّيات مقبلة. في خطابه الأخير قال الأمين العام الجديد إن “الحزب” يريد تفعيل دوره السياسي “تحت سقف اتفاق الطائف”، واعتُبر هذا الكلام جديداً لأن “الحزب” بنى كل “أمجاده” وتخريباته الداخلية على أساس نقض اتفاق الطائف والبحث عن “طائف” بديل من صنعه، أي من صنع إيران. هذا الموقف الجديد ماذا يمثّل عملياً، وهل يمكن تنزيهه من الخداع والمناورة، وبكلمة واحدة: هل يمكن الوثوق به؟
ربما تكون للضرورة أحكام، أو تكون هناك “تنازلات” يلمّح نعيم قاسم مجرد تلميح الى أن “الحزب” سيقدمها من قبيل “التواضع” تجاه الداخل لقاء التشدّد مع الخارج في شروط وقف اطلاق النار. لكن “المساهمة في انتخاب رئيس للجمهورية بالطريقة الدستورية” ليست تنازلاً بل انها واجب مستحق منذ عامين الا أن “الحزب” جمّده، فهل يعني ابداءه الاستعداد لانتخاب رئيس أنه كان بحاجة الى هذه الحرب ليتعلّم درساً بديهياً في السياسة والممارسة الديموقراطية؟ ومن جهة أخرى كيف يريد نعيم قاسم أن يفهم اللبنانيون حديثه عن الحضور السياسي لـ “الحزب”، أليس لديه حالياً نواب في البرلمان ووزراء في الحكومة، ألم يستخدم نوابه صفتهم هذه كي يلجأوا الآن الى “فندق” ساحة النجمة مخافة الاغتيال؟ إذاً، ما الذي سيتغيّر لاحقاً، هل سيوافق “الحزب” مثلاً على اجراء انتخابات مبكّرة من دون أن يمارس فيها ارهابه على أبناء الجنوب وبعلبك، وهل قرر “الحزب” مبدئياً التفاوض على نزع سلاحه كي يكون “حضوره في الميدان السياسي بقواه الشعبية والسياسية” وليس بسلاحه؟
كانت أمام نعيم قاسم فرصة للبدء ببناء الثقة مع اللبنانيين لكنه لم يشر الى السلاح غير الشرعي وهو يعلم أن هذا السلاح هو في أساس التشكيك بـ “الحزب” ومآربه الإيرانية تجاه لبنان. فما دام السلاح موجوداً كبوليصة تأمين لوجود “الحزب” نفسه فإنه سيحول دون تطبيق القرار 1559 وبالتالي دون تطبيق صحيح للقرار 1701 لمصلحة لبنان، كما أنه سيبقى عنواناً للاحتلال الإيراني. وفي ظلّ هذا الاحتلال ستبقى الدولة معطّلة حتى لو انتُخب رئيس “توافقي” بمعنى مشلول وغير فاعل. ومع اعلان علي لاريجاني (مستشار خامنئي)، في خضم التفاوض على وقف اطلاق النار، أن “الحزب” لم يستخدم أسلحته الأكثر أهمية، يبدو كلام نعيم قاسم على حقيقته، أي بلا أهمية. فالدور السياسي الذي يروّج له سيبقى مستنداً الى السلاح.
عبد الوهاب بدرخان- لبنان الكبير