طهران تقفز من على المركب قبل غرقه: إيران تبيع أوراقها.. لتحفظ رأسها!
فجأة أقدم المرشد الإيراني علي خامنئي على طرح الانتقال مـن مبدأ “الصبر الاستراتيجي” إلى مبدأ جديد سمّاه “التراجع التكتيكي”، في وقت استعرت المعركة وتقدّمت إسرائيل وقصفت وتقصف الحزب ولبنان يومياً، وتواصل استهداف الحزب وقياداته.
بالأصل، لم يكن مطروحاً يوماً أن تضحّي إيران من أجل أذرعها. فالمعادلة ليست متكافئة بينهما ولا معادلة Win Win، بل معادلة Iran Win على حساب الدول وأذرعها فيها. هذه الأذرع مهمّتها تأمين مصالح طهران الإقليمية والدولية وحماية الأراضي الإيرانية. أمّا الدعم اللوجستي والمادّي والعسكري فلم يكن إلّا لتلك الغاية.
طوال 4 عقود والنظام الإيراني ينشئ أدوات له في المنطقة والعالم. يزوّدها بالمال والسلاح وبكلّ المستلزمات اللازمة لكي تصمد “صمودها الاستراتيجي”، وتصبر “صبرها الاستراتيجي” بهدف تحقيق انتصارات في بلدانها فتوظّف طهران هذه الانتصارات لاحقاً في كامل المنطقة وفق مصالحها. إذاً ليس مستغرباً أن يخرج وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي على وقع الضربات التي يتعرّض لها الحزب في لبنان ويصرّح بأنّ “التركيز مع الدول الأوروبية حاليّاً هو على المحادثات”.
إيران تبيع الأوراق.. لتحفظ رأسها
بحسب نظرية “الصبر الاستراتيجي” والصمود الاستراتيجي، دعم الحكم في طهران كلّ القوى الحليفة له، وافتخر بأنّه نشلها من مرحلة بدائية إلى مرحلة عسكرتها وتحويلها إلى تنظيمات مسلّحة موازية للجيوش تؤثّر في بلدانها وفي إقليمها وفي جغرافية المنطقة، فدفع بها للاستيلاء على مقاليد السلطة أو التأثير فيها تأثيراً فعّالاً. استغلّ تضحياتها وخسائرها ليتولّى هو التفاوض مع الغرب عامة، ومع واشنطن تحديداً، على أرواح مقاتليها ودمار البلدان التي تسيطر عليها.
لكنّ المتغيّرات اليوم جعلت طهران تقفز من على المركب قبل غرقه. تعرّضت لضربات متتالية جعلتها تبدأ ببيع الأوراق لتكسب ثمنها قبل احتراقها.
العراق بدأ “استقلاله”
ففي العراق اعتقد النظام في طهران أنّ سيطرته على البلد الجار دائمة وأبديّة. لم يختبر المزاج الشعبي العراقي الذي، وإن عانى سابقاً من الجور والضيم، لن يقبل باستبدال احتلال باحتلال آخر، ولن يقبل باستمرار نهب ثرواته من قبل أيّ كان في الداخل عن طريق الفساد أو في المحيط عن طريق استثمار واستغلال التنظيمات المسلّحة. فلا ذهول أمام رؤيتنا للحكم في العراق يشقّ طريقه نحو الاستقلالية، ولا دهشة بخطواته نحو سيادة العراق ولو ببطء وتأنٍّ وطول أناة.
في المقابل، لم تخفِ طهران انزعاجها من خطوات بغداد، فكانت ضغوطاتها المتعدّدة واضحة ماليّاً واقتصادياً وأمنيّاً لعلّها تعيدها إلى دائرة نفوذها، فهي تشكّل أوّل الجسر إلى الأذرع والحصن الأخير لأراضي إيران.
سوريا خرجت من اللّعبة
استثمرت طهران مشاريعها التوسّعية في سوريا، وصرفت المليارات على النظام، وساندته بشرياً وأمنيّاً وعسكرياً للبقاء والصمود. فقيل إنّ الديون المترتّبة على دمشق لإيران خلال الحرب الأهلية قد فاقت 35 مليار دولار. في حين ما زال المواطن السوري يقف في الطابور لمدّة تزيد على 48 ساعة ليحصل على بضعة ليترات من البنزين لأنّ طهران تمنّعت عن الإمداد بشحنات إضافية من الموادّ النفطية.
هذا علاوة على أنّ دمشق بعد “طوفان الأقصى” أبلغت طهران أنّها لن تشارك في أيّ مواجهة عسكرية مع تل أبيب من أيّ نوع كان. لا بل تتحيّن سوريا الظروف التي تبعدها عن محور الممانعة ويحفّزها على سلوك هذا الاتّجاه التوجّه العربي الإيجابي نحوها.
… الحزب وحيداً
أخذ الحزب على عاتقه وحيداً مهمّة “التصدّي والصمود” على الرغم من تضاؤل القوى المنخرطة بالمحور الإيراني، فربط مصير لبنان بمصير قطاع غزة. وعلى الرغم من تحوّل غزة إلى أثر بعد عين، استمرّ الحزب في ما سمّاه “حرب المساندة” لغزّة التي تحوّلت إلى حرب تدميرية لضاحية بيروت الجنوبية وقرى وبلدات الجنوب وصولاً حتى البقاع وعدد كبير من المناطق اللبنانية الأخرى في الشوف وجبيل وكسروان…
فمن هجوم الضاحية الجنوبية الذي استهدف الأمين العام للحزب، إلى تفجيرات البيجرز واللاسلكي، إلى اغتيال قادة قوّة الرضوان وغيرها، تحمل هذه الحرب الجديدة في طيّاتها تغييراً جذرياً لكلّ ما كان سائداً من نظريّات حول الردع وقواعد الاشتباك، وما يتعلّق بالحسابات والتقديرات السابقة لطبيعة الصراع وسرديّات “انهيار كيان العدو”، وضعفه الموصوف بأنّه “أضعف من بيت العنكبوت”.
يقع الحزب اليوم بين فخّ تل أبيب والكارثة الإنسانية والتنظيمية. فهو في مأزق حرج جداً بحيث لا يستطيع إعلان وقف النار وتخلّيه عن حرب المساندة وعن دعمه لحماس، بعدما دفعته طهران لتبنّيها، واعتمدت عليه ليصدّ الهجمات الإسرائيلية عنها، وفي الوقت عينه لم يعد بمقدوره تحمّل المزيد من الخسائر البشرية، سواء داخل التنظيم أو ضمن البيئة الحاضنة له.
غيّرت الحرب الجديدة القراءات التقليدية، ومنها ما كان يقال عن منظومة الردع، وعن الاستمرار في تلقّي الضربات المماثلة، وعن الردّ على الردّ، ومعادلات تل أبيب مقابل الضاحية، والمدني مقابل المدني، فشكّلت هذه الحرب بتوقيتها واتّساعها وامتدادها البشري والجغرافي أذى كبيراً معنويّاً وعسكرياً وأمنيّاً داخل صفوف الحزب ومحيطه وبيئته، خصوصاً أنّ تل أبيب قد عمدت إلى تحضير أرضية ميدان لحرب متفاوتة الثقل، ليس للحزب أدوات وأسلحة مؤثّرة فيها، فيما المهاجم فيها يتكبّد “صفر خسائر”.
حرب “جديدة” بكلّ المعايير
هذه الحرب قضت على وسائل الاتصال وطرق التواصل بين الكوادر والقيادات على وقع اغتيالات لا تتوقّف لقادة الحزب. فمن ناحية يصعب السكوت والصمت عمّا وقع من أضرار ومصائب وويلات، ومن ناحية أخرى فإنّ الاستدراج إلى ردّ عنيف يقود إلى حيثما تريد تل أبيب.
هذا الحرج العسير المترافق مع الصعاب الجارية في البحر الأحمر وميناء الحديدة وجرف الصخر في محافظة بابل العراقية، والاغتيالات في ضاحية بيروت الجنوبية وفي قلب طهران، وما رافق سقوط طائرة رئيسي من تساؤلات، وما سبّبه العدوّ التكنولوجي الإلكتروني “اللصيق بجسم المقاتلين”… قاد علي خامنئي لانتخاب مسعود بزشكيان رئيساً لنظامه، وسيقوده أكثر إلى تبنّي سياسة “التراجع التكتيكي”.
إيران لم تبع الحزب بل باعت ورقته حالياً. قد تحتاج إليه مجدّداً يوماً، لكن أقلّه اليوم فقد قدّمته قرباناً على مذبح المفاوضات. وهذا ليس خفيّاً على أحد. تصريحات القادة الإيرانيين لم تُمسح عن الشرائط الإخبارية بعد. بقي الحزب وحيداً. ولا خلاص له ولبيئته إلّا بالاستيقاظ والعودة إلى لبنانيّتهم بعيداً عن طهران ومصالحها. فلم يبقَ أمامهم إلا لبنان والشعب اللبناني الذي يلملم جراحهم اليوم ويفتح مناطقه وأذرعه لهم على الرغم من كلّ الاختلافات والخلافات المتراكمة.
بديع يونس- اساس