حسابات «محور إيران» كانت خاطئة: حرب القضاء على «حزب الله»…بداية مزلزلة ولكن ماذا عن النهاية؟
يوماً بعد يوم، يتكشَّف أن حسابات «محور إيران» كانت خاطئة. خلقت طهران أذرعها العسكرية في المنطقة المبنية على بُعد عقائدي طائفي ومذهبي لاختراق الدول وزعزعة استقرارها وتحويلها إلى ورقة بيدها. وأصبح «حزب الله» الذراع الأقوى و«درَّة التاج» نظرا إلى الجغرافيا الموجود فيها الملاصقة لإسرائيل وطول الاستثمار فيه عسكرياً، ومالياً، واجتماعياً، وعقائدياً، حتى أضحى من أقوى المنظمات العابرة للقارات القادرة على تنفيذ كل أنواع المهمات والأعمال التي وُسم بعضها بـ«الإرهابية» وتجارة المخدرات، والتهريب، وتبييض الأموال، ونقل السلاح والنفط، وإتقان طرق الإفلات من العقوبات المفروضة عليه وعلى إيران وكثير من كياناتها.
حتى لو تعدَّدت قراءات «كبس الزر» لهجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 على غلاف غزة، فإن استشراف الآتي من التطورات بات جلياً. ما كُتب قد كُتب: قرار القضاء على «حركة حماس» اتُخذ منذ عملية «طوفان الأقصى» مهما كانت كلفتها وهمجية التدمير والقتل والمجازر في قطاع غزة الذي أصبحت أجزاء كبيرة منه أثر بعد عين. وقرار القضاء على «حزب الله» في لبنان قد اتخذ هو الآخر، مهما كانت كلفته أيضاً، حتى ولو أدى إلى حرب شاملة، يريدها في الأساس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اليوم قبل الغد.
كانت سردية «محور إيران» تقوم على أن الحرب على «حزب الله» الخارجة عن قواعد الاشتباك، أو التي يمكن أن تستهدف تصفيته، لا يمكن أن تبقى محصورة بين إسرائيل و«الحزب» بل ستستجدي حرباً إقليمية تتكامل فيها وحدة الساحات لدى المحور، أي أن الحرب ستكون على جبهات مختلفة من لبنان، وسوريا، والعراق، واليمن، وإيران، وغزة، وحتى الضفة وأراضي 1948 بمعنى فتح نهار جهنم على الكيان الإسرائيلي، ليس لفرض «حل الدولتين» بل لتحرير القدس والصلاة في الأقصى، ومحو هذا الكيان الذي هو «أوهن من بيت العنكبوت». كانت قناعات القيادة العليا في «حزب الله» راسخة بأن إيران لا يمكن أن تغامر بتركه يخوض الحرب وحيدا. هو الذراع الأقوى التي أُنشئت لتحمي أبواب طهران ونظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ذلك أن القضاء على «حزب الله» سيفتح الباب للوصول إلى قلب طهران وتهديد نظام ولاية الفقيه.
والخطأ الاستراتيجي الذي وقع فيه «المحور» ومعه «حزب الله» هو التحضير لحرب 2024 بعقلية حرب 2006 مع تطوير منظومات الأسلحة، فيما إسرائيل كانت تحضِّر لحرب الجيل الخامس. حرب تعتمد فيها على التكنولوجيا وعلى الذكاء الإسرائيلي، مع الانكباب على العمل الاستخباراتي، حيث أظهرت تطورات الأشهر الأحد عشر، ولا سيما تطورات الأيام الماضية، أن لديها مسحاً دقيقاً لكل مخازن ومراكز وبيوت قيادات الحزب من سياسيين وعسكريين وميدانيين، كما لديها مسح لكل منزل في كل بقعة من لبنان، ونجحت في استهدافات القيادات الميدانية عبر المسيَّرات، ما أدى إلى مقتل نحو 500 من القيادات وحلقات الوصل الميدانية. وعند اتخاذها قرار «الحرب الساحقة» مع «الحزب» قامت بمجزرة تفجير أجهزة النداء (البيجرز) في 17 أيلول/سبتمبر التي أدت إلى نحو 3000 إصابة، وخروج نحو 1500 عنصر من الخدمة، كما تفجير أجهزة اللاسلكي في اليوم التالي لاستكمال مهمة ضرب سلاح الاتصالات والإشارة ومركز القيادة والسيطرة، وسبقها بدء تصفية القادة الكبار. فبعد اغتيال من وُصف برئيس أركان «حزب الله» فؤاد شكر في غارة على الضاحية قبل بدء الحرب، دشَّنت إسرائيل هجومها الجويّ بالقضاء على قيادة فرقة «الرضوان» وقائدها إبراهيم عقيل، ثمَّ حاولت اغتيال القائد في «المجلس الجهادي» علي كركي، قبل أن تصطاد قائد وحدة الصواريخ في «الحزب» إبراهيم قبيسي، ومن ثم قائد الوحدة الجوية المسؤول عن المسيَّرات محمد حسين سرور المعروف باسم حركي هو «أبو صالح» وانتهت باغتيال القيادة العليا لـ«الحزب» وعلى رأسهم الأمين العام السيد حسن نصرالله في غارة شنّتها إسرائيل عصر يوم الجمعة (27 أيلول/سبتمبر) على مقر القيادة المركزية لـ«الحزب» في حارة حريك أثناء اجتماع لكبار القادة. أخطأ «المحور» ومن خلفه «حزب الله» في الرهان على أن الإسرائيلي لا يُقاتل لمدة طويلة على الأرض، ولا يتحمل الخسائر البشرية والاقتصادية؛ وبالتالي، فإن «السيناريو» الذي كان مرسوما هو حرب لأسابيع لا أكثر يليها وقف لإطلاق النار.
ربط «حزب الله» بين حرب غزة و«حرب المشاغلة» التي بدأها في 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023 تحت شعار «إسناد غزة» والتي أدت إلى تهجير نحو 60 ألفا من سكان المستوطنات في المنطقة الشمالية المحاذية جغرافيا لجنوب لبنان إلى الداخل الإسرائيلي. صحيح أن «حرب المشاغلة» أدت إلى تهجير ما يزيد على 100 ألف لبناني من قرى وبلدات الشريط الحدودي التي سوّي بعضها بالأرض، وبات من الصعب التعرّف على معالمها، لكن «الحزب» كان يعتبر أن ورقة سكان الشمال هي عنصر قوة لديه، وأنها تُشكِّل ضغطا حقيقيا يمكن من خلاله الضغط على حكومة بنيامين نتياهو لوقف إطلاق النار في غزة، وضمان بقاء «حماس» بغض النظر عن الشكل السياسي الجديد الذي يمكن أن تتخذه. أخطأ «حزب الله» ومن ورائه «المحور» في قراءة فكر نتنياهو، وراهنوا على انقسام إسرائيلي داخلي وعلى عدم قدرته على الصمود في وجه الرياح التي تضرب مركبه. لكن بدا أن نتنياهو أقوى من كل الرياح العاتية، وإذا كانت ثمة خلافات في ما خصَّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار من أجل إطلاق سراح الرهائن المتبقين لدى «حماس» فإن الإسرائيليين موحَّدين في ما خص الجبهة الشمالية وضرورة إنهاء خطر «حزب الله» سواء بالوسائل الدبلوماسية أو الوسائل العسكرية. ورغم كل الرسائل المباشرة التي وصلت إلى «الحزب» حول ضرورة فصل الجبهتين، وعن وجود بنك أهداف كبير أعدَّت له إسرائيل العدة، وعن جنون إسرائيلي قادم، إذا لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية تُعيد الاعتبار إلى القرار الدولي 1701 وتنفيذه فعلياً لا صورياً عبر انسحاب «حزب الله» إلى شمال الليطاني وإخلاء منطقة جنوب الليطاني بالكامل فوق الأرض وتحتها، فإن «الحزب» بقي على موقفه من ربط الجبهتين، وخرج نصرالله بعد ضربة «البيجرز» والأجهزة اللاسلكية ليُعلن أنه لا تراجع عن قرار الربط، ولا عودة لسكان الشمال الذي أدرجته القيادة الإسرائيلية ضمن أهداف الحرب. ولم يُصغِ «حزب الله» إلى الجهود الدبلوماسية والنداءات الداخلية، التي رأت في استمراره بـ«الإسناد» غير المجدي لغزة، استدراجاً لحرب واسعة مع إسرائيل المحكومة من «طغمة» مجنونة، وهو الأمر الذي من شأنه تحويل لبنان إلى غزة ثانية.
عبارة «غزة ثانية» قديمة – جديدة، في القاموس السياسي اللبناني، وهي كانت ظهرت على شكل تحذيرات من مغبة تحويل «حزب الله» البلاد إلى غزة ثانية بعدما كان تمادى في هيمنته على لبنان ما تسبَّب بعزله عن عمقه العربي وعن العالم، وعمّق جروحه إلى الحد الذي انهار فيه كل شيء… آلة الحكم للدولة ومؤسساتها، إضافة إلى المال، والاقتصاد، والاستقرار الاجتماعي، وبعده الأمني.
بدا واضحاً منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر أن الولايات المتحدة، بمجيء أساطيلها، قد منعت تفلّت إيران من تحريك أذرعها العسكرية خارج قواعد الاشتباك، ولا سيما «حزب الله» ونجحت في لجم الميليشيات العراقية التابعة للحرس الثوري الإيراني، سواء أكان عن استهداف القواعد الأمريكية في العراق أم شرق سوريا؛ وتمَّ تحييد النظام السوري عن الانخراط في المعركة وانفلات جبهة الجولان. وكانت الغارات المكثفة ضد قيادات ومواقع إيرانية، بما فيها القنصلية الإيرانية، رسالة جليّة لما يمكن أن تقوم به إسرائيل، حيث ما زال الاعتقاد سائداً بأن تل أبيب هي حامية رأس النظام السوري. حتى إن الرد الإيراني على إسرائيل في 14 نيسان/أبريل بعد استهداف القنصلية أظهر قدرة الغطاء الجويّ – الذي وفَّرته أمريكا وقوات التحالف الواقع ضمن القيادة المركزية الأمريكية الوسطى (سنتكوم) – على حماية إسرائيل من أي هجوم صاروخي كبير.
علامات استفهام كبيرة رُفعت حيال انهيار السردية القائمة على «توازن الرعب» بعد «توازن الردع» على الاستباحة الإسرائيلية الكاملة التي تُحوِّل مناطق واسعة من لبنان إلى حطام مجبول بدماء الآلاف من القتلى والجرحى.
لم تقتصر الأسئلة على سر هذا «التسليم» أمام الجنوح المخيف والوحشي لإسرائيل، بل امتدت إلى ما هو أبعد، حين أظهرت إيران فائضاً من البراغماتية جعلت «الحزب» يبدو وكأنه «وحيداً»؛ من كلام السيد علي خامنئي عن «التراجع التكتيكي» إلى المواقف الملتبسة للرئيس الإيراني مسعود بزشيكيان عن العلاقة «الأخوية» مع الأمريكيين وما شابه. القراءات تذهب إلى أن البراغماتية الإيرانية تنطلق من أن الأولوية هي لتأمين حماية النظام، ومعرفتها الدقيقة بأن أي انجرار إلى حرب إقليمية سيكون مكلفاً عليها، إذ ستكون هدفاً للضربات في الداخل الإيراني وفي مقدمها مشروعها النووي، فضلاً عن تأثير ذلك على وضعها الداخلي الذي يصفه مراقبون بالهش، بحيث الجمر تحت الرماد.
مقرّبون من «محور إيران» قدَّموا مقاربة أشبه بقراءة بـ«دم بارد» لما انطوت عليه الضربات الـ«ما فوق عادية» والمذهلة التي تلقاها «حزب الله» الذي يُراكم خسائر لم يكن في الإمكان توقعها حتى في أكثر السيناريوهات خيالية. وترتكز تلك المقاربة على أن «حزب الله» يعتمد استراتيجيا احتواء الصدمة عبر تركه إسرائيل تُفرغ «بنك أهدافها» العسكري الذي يشتمل على نحو 13 ألف هدف، تنتظر تجاوزها لخطين أحمرين تتجنب تل أبيب المس بهما حتى الآن: استهداف المدنيين وضرب البنى التحتية.
وفي تقدير هؤلاء أن المدنيين الذين تساقطوا في غير مكان هم من عائلات عناصر «حزب الله» أي أنهم أقرب ما يكونون إلى أهداف عسكرية لـ«الحزب» الذي يقرُّ بتلقيه ضربات على الرأس، لكنه يُعلي البعد الاستراتيجي للحرب التي أهم ما فيها خواتيمها، «فمن يضحك أخيراً يضحك كثيرا».
المقصود بهذه المقاربة أن «حزب الله» يعمل على احتواء الصدمات الهائلة التي يتعرض لها لإفراغ مخزون الأهداف الذي تملكه إسرائيل قبل إخراج صواريخه الاستراتيجية من المخابئ تحت الأرض وفي باطن الجبال لمباشرة هجوم لن ينجو منه أي مكان في إسرائيل.
وإذ يقرُّ القريبون من «الحزب» بأن إيران لن تنخرط في أي مواجهة لاعتبارات تتعلق بها، فإنها تقلل من شأن الكلام عن أن نزول الصواريخ الذكية والدقيقة إلى الميدان، هو أمر بيد إيران، لأن طهران شريكة في إدارة الحرب في بعديها الأيديولوجي والمصلحي، وتالياً فإنها تُدرك أن وقف الحرب ينطوي على هزيمة لـ«الحزب» ولمحورها ولمشروعها في المنطقة.
تلك المقاربة تبدو وكأنها لا تقرأ «التسونامي» الذي اجتاح «حزب الله» على مختلف المستويات. ولا تأخذ حجم التغيير في المشهد، وفي التوازنات، وفي المعادلات التي كانت قائمة. صحيح أن الحرب لم ينته، وأن هناك اقتناع قوي بأن إسرائيل ستقوم باجتياح بري، وهو ما يُراهن عليه «حزب الله» كون الأرض أرضه والجغرافيا اللبنانية تساعده على إيلام الإسرائيلي، إلا أن مراقبين عسكريين يرون أن التدخل البري ليس على وشك الحصول، ولن تبدأه القوات الإسرائيلية قبل أن يَفرُغَ سلاحها الجوي وزوارقها وبوارجها من إنهاك «الحزب» وضرب مخازنه ومستودعاته ومواقعه وأنقاقه والإجهاز على ما أمكنها من قياداته لشلّه بالكامل.
ما يهمُّ إسرائيل هو إعادة فرض منطق التفوّق. وإذا نجحت في تحقيق ذلك من خلال الجبهة اللبنانية عبر تقليم أظافر «حزب الله» في الحد الأدنى، وهو ما يُعتقد أنه بات منجزاً مع كم الضربات الماحقة التي تعرض لها، فإنها تكون قد وجهت رسائل متعددة الاتجاهات لكل الأذرع الإيرانية، فضرب الذراع الأقوى لإيران في لبنان سيكون كافياً لها لتكريس معادلة «التفوُّق والردع» في وجه الأذرع الأخرى، سواء الفصائل العراقية أو الحوثيين الذين كانوا تلقوا ضربة الحُديدة، وإن كان المهم لها هو «حزب الله» نظراً إلى الجغرافيا المتلاصقة خلافاً لما هو واقع الحال مع العراق والحوثي في اليمن.
أسابيع ستة للانتخابات الأمريكية التي يُتوقع أن تكون قاسية على لبنان قبل أن يتبلور مَن هو الآتي إلى «البيت الأبيض» لاستكمال رسم معالم مستقبل الشرق الأوسط. ما هو أكيد، على المدى المنظور، أن لبنان يعيش المجهول، وأن إسرائيل مُطلقة الأيدي لإتمام مهمة لا يمكن أن تكون قد قامت بها من دون غطاء دولي، على أقله أمريكي. بات علينا أن نقتنع أن المنطقة كلها تتغيَّر، ولعل زمن الأذرع التي شلَّت وأضعفت الدول الوطنية قد شارف على النهاية!.
رلى موفق- القدس العربي