أبعد من إعادة مستوطني الشّمال… والبنى التحتيّة: هل يُطبّق نهج غزّة في احتلال الجنوب؟
صارت أخبار المجازر في غزّة واقتحامات الجيش الإسرائيلي لمخيّم جنين في الضفّة الغربية في المرتبة الخامسة في الفضائيّات العربية والدولية. تقدّمت أخبار المجازر الإسرائيلية في لبنان وجنوبه على استكمال محو القطاع ومعارك رفح.
المفارقة أنّ السيناريو الدمويّ والكارثي لما يشهده لبنان سبق أن شهدنا مثله في غزة. هكذا يواصل نتانياهو عمليات الاغتيال على غرار ما حصل أمس في الضاحية في خضم ملهاة التفاوض، بغطاء دولي.
تطرح إسرائيل أهدافاً لكنّها ترمي إلى غيرها. تقترح أميركا مبادرات لوقف النار والتسويات بموافقة إسرائيل، فيعود بنيامين نتنياهو إلى نقضها. تطلب واشنطن “خفض” استهداف المدنيين وتلوّح بحجب تسليم تل أبيب أسلحة ومساعدات إذا استمرّ، ثمّ تقدّم لها هدايا بمليارات الدولارات. يتبادل نتنياهو الأدوار مع حلفائه في الائتلاف الحكومي في المزايدة بالدفاع عن وجود الدولة العبرية المهدّد فيتصاعد التدمير المرعب.
ما الذي يمنع تكرار سيناريو غزة في لبنان في ظلّ خليط العجز الدولي عن ضبط “مجانين إسرائيل”، والتسليم بـ”حقّها في الدفاع عن نفسها”؟
جاء التحذير من ذلك على لسان قادة كثر في العالم أبرزهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. فالمقدّمات تتشابه كي تتكرّر المأساة، بينما يغلب التوجّه الداعي إلى إضعاف طهران وأذرعها تطبيقاً لمعادلة “إيران منضبطة وإسرائيل آمنة”.
تعديل في الاستراتيجية حيال إيران
ثمّة اعتقاد في دوائر ضيّقة بأنّ تغييراً طرأ على استراتيجية ضبط الانفلات الإيراني الذي يسعى إليه الغرب. كانت إسرائيل في السابق تتمايز عن الولايات المتحدة الأميركية بإصرارها على خوض حرب خاطفة ضدّ إيران بحجّة برنامجها النووي. وهذا كفيل بضمور دورها الإقليمي الذي تريد واشنطن الحدّ منه. يقول أصحاب هذا الاعتقاد إنّ واشنطن التي تخشى توسّع الحرب بدخول الذراع الأقوى لطهران، الحزب، دفاعاً عنها، أقنعت تل أبيب بتعديل نظرتها. بدلاً من ضرب طهران والتعرّض لنيران الحزب من لبنان دفاعاً عنها، يقود ضرب الأخير في لبنان إلى إضعاف طهران ويأتي بها إلى الانتظام في الإطار الدولي. بذلك تضمن إسرائيل أمنها من الجنوب بعد سحقها غزة، ومن الشمال بتعطيل تهديد الحزب في جنوب لبنان.
صحَّ سيناريو هذا التعديل في استراتيجية التعامل مع طهران أم لا، فإنّه لقي صدىً لدى من يسمّونهم بعض المسؤولين في أوروبا “مجانين” إسرائيل. وهو يتلاقى مع الهستيريا التي غلبت على المجتمع الإسرائيلي إثر “طوفان الأقصى”، وقالت بأنّ العملية تهدّد الوجود اليهودي في أرض الميعاد. لذلك سادت معادلة اليمين التلموديّ الاستيطاني: “إمّا نحن، وإمّا هم”. سوّغت هذه المعادلة سحق غزّة ببشرها وحجرها وأجهضت كلّ محاولات وقف الحرب، وعرّضت الشعب الفلسطيني لحملة إبادة، ومهّدت لتهجير فلسطينيّي الضفّة الغربية.
سقوط فرضيّة استبعاد إدامة الحرب
حين حذّر البعض من أنّ حرب غزة قد تطول لسنة وأكثر لم نصدّق هذا التوقّع. اعتبره المتشكّكون، من المنتمين لمحور الممانعة ومن غير المنتمين، مبالغة، لأسباب عدّة منها على سبيل الحصر:
– صعوبة تأقلم المجتمع الإسرائيلي مع إطالة الحرب. وها نحن على بعد عشرة أيام من إنهاء السنة الأولى. أصحاب هذا التوقّع يجزمون بأنّ حرب غزة مستمرّة بأشكال أخرى، على الرغم من تأكيد القيادة العسكرية أنّها حقّقت أهدافها.
– أنّ المشاغلة وإمكان فتح جبهات أخرى ضدّ إسرائيل من فصائل الممانعة وأذرع إيران يستدعيان تفكير أميركا وإسرائيل بتسوية. فعلى الأخيرة احتساب فداحة الخسائر في اقتصادها وفي جيشها.
– أنّ الولايات المتحدة لا تستطيع احتمال المجازر والدمار ومواصلة إمداد إسرائيل بالمساعدات في وقت توفّر موارد حرب أوكرانيا، وكذلك أوروبا.
– أنّ الإدارة الديمقراطية في واشنطن لا تريد خوض مرشّحتها كامالا هاريس انتخابات الرئاسة للحؤول دون تحوّل دعم إسرائيل إلى عنوان ابتزاز من قبل دونالد ترامب.
هل يُطبّق نهج غزّة في احتلال الجنوب؟
أسقط الزمن الفرضيات التي استبعدت إدامة الحرب. تفيد الاستطلاعات أنّ أكثر من 60 في المئة من الإسرائيليين يؤيّدون حرب نتنياهو ضدّ لبنان والحزب. ولا داعي لتكرار تصريحات وزيرَي المالية بتسلئيل سموتريتش والأمن إيتامار بن غفير عن أنّ الحرب على لبنان يجب أن تنتهي بـ”سحق الحزب”.
بينما يعتبر البعض إطالة الحرب ضدّ لبنان مثل غزة غير ممكنة لأنّ قدرات الحزب العسكرية أكبر بكثير، هناك معطيات معاكسة:
1- ترجّح قراءة مرجع سياسي لبناني واسع الاطّلاع أن يتخلّل الحملة العسكرية ضدّ لبنان اجتياح برّي حتى خطّ نهر الليطاني. لكنّ ذلك سيتمّ بعد حملة تدمير بالقصف الجوّي تزيد من تهجير الجنوبيين. والهدف هو إخراج مقاتلي الحزب نحو شمال النهر.
2- من غير المستبعد أن يستمرّ احتلال الجيش الإسرائيلي للجنوب فترة طويلة قد تستمرّ سنة وأكثر أيضاً. يتزامن ذلك مع استمرار العمليات العسكرية في الجنوب والقصف على المناطق اللبنانية الأخرى حيث يوجد الحزب، ومع فترات من التفاوض. وهذا يعني مواصلة العمليات العسكرية في غزة أيضاً لسنة جديدة. فنتنياهو قال إنّ أيّ مفاوضات تهدئة ستكون تحت النار و”سنواصل ضرب الحزب”.
أبعد من إعادة مستوطني الشّمال… والبنى التحتيّة
3- في اعتقاد مسؤولين لبنانيين أنّ إعلان مصدر إسرائيلي قبل أيام أنّ البنية التحتية العائدة للدولة اللبنانية لن تستهدف، يوحي بعدم قصف المطار والمرفأ والكهرباء والجسور، كما في حرب 2006. وتفيد المعلومات أنّ الجانب الأميركي لعب دوراً في ذلك لحصر الحرب بضرب الحزب وقدراته. إلا أنّ تجربة غزة لا تشجّع على الركون إلى أيّ تطمينات.
4- يحيل البعض التساؤل حول ما إذا كان القصف سيعفي العاصمة بيروت، إلى ما يمكن أن يقرّره الجيش الإسرائيلي في حال أدّى تدحرج الحرب إلى قصف مراكز حيوية ومدنية في الأراضي المحتلّة. والخطر يبقى قائماً بلا ضمانات. وبحسب من استمعوا إلى ما نقله الموفدون الأوروبيون والدوليون للبنان منذ أيلول الماضي، فإنّ هؤلاء أوحوا بأنّ الجنون الذي يحكم إسرائيل قد يؤدّي إلى استهداف أيّ نقطة في لبنان. ومن هؤلاء المدير السابق للمخابرات الفرنسية الخارجية السفير برنار إيمييه.
5- يعتقد مرجع سياسي لبناني أن ليس منطقياً الطلب من إيران خوض الحرب دفاعاً عن لبنان والحزب. فطهران قامت بما عليها. أي أنّها سلّحت الحزب في لبنان بحيث يتمكّن من صدّ العدوان الإسرائيلي. ولديه آلاف الصواريخ للردّ على الهجمات الإسرائيلية… وظهور إمكانيات الحزب الفعلية قد يكون عاملاً إضافياً لإطالة الحرب. ولربّما هذا سبب عدم امتناعه عن استعمال صواريخ فعّالة.
لم تمضِ ساعات على ذلك حتى أوضح مساعد الرئيس الإيراني للشؤون الاستراتيجية محمد جواد ظريف لـ”سي إن إن” أنّ الإسرائيليين “تخطّوا الخطّ الأحمر. ودول المنطقة تنبّهت إلى أنّ الهدف هو استدراجها إلى الحرب عبر ارتكاب إسرائيل الفظاعات بهدف استعادة صورة الدولة التي لا تقهر”… وردّ ظريف على سؤال عمّا إذا كانت إيران ستدخل الحرب دفاعاً عن الحزب، بأنّها مارست ضبط النفس مع اعتداءات إسرائيل الإرهابية عليها، وأضاف: “نعتقد أنّ الحزب قادر على الدفاع عن نفسه”، ملقياً اللوم على المجتمع الدولي لأنّه لم يقم بما يحتوي إمكان توسّع الحرب، قبل أن يضطرّ الحزب إلى أن يدافع عن نفسه بالوسائل التي بين يديه.
الحملة بحجم تغيير الشّرق الأوسط
1- يستذكر قادة سياسيون تصريحات نتنياهو عن أنّ الحرب التي يخوضها ستغيّر الشرق الأوسط. قالها قبل سنة خلال خطابه في الأمم المتحدة بشهر أيلول 2023. ثمّ كرّرها بعد 7 أكتوبر من العام نفسه. وعاد فأعلن ذلك في 20 أيلول، قبل أيام، إثر بدء الحملة العسكرية على لبنان والحزب.
يستند مراقبون في تحذيرهم من المنحى الدراماتيكي الذي يمكن أن تسلكه الحرب إلى أنّها أبعد من ضمان أمن مستوطني الشمال. وربّما تقاطعت في هذا المجال أهداف نتنياهو مع التوجّه الغربي عموماً لرسم موازين إقليمية في ضوء الاستقطاب العالمي الذي أحدثته حرب أوكرانيا. ولهذا حديث آخر يطول، في ظلّ اتّهام الغرب طهران بدعم موسكو بالصواريخ والمسيّرات.
2- يبدو المناخ السياسي الإقليمي المحيط بالحرب على لبنان مناسباً لإسرائيل. فمع الرفض العربي لأيّ تطبيع معها، وارتفاع لهجة دول إسلامية مؤثّرة مثل تركيا ضدّ الاندفاعة الإسرائيلية، ليس من خطوات عملية تلجمها، بل هناك قناعة ضمنيّة، تشمل بعض النظام العربي، بأنّ انتقال لبنان إلى مرحلة من التعافي تتطلّب انتزاعه من قبضة نفوذ إيران. ويستشفّ بعض المعنيين هذا التوجّه من الاستناد إلى أنّ الحزب أمعن في وضع يده على البلد، وأنّه لا بد من توجيه ضربة له “تهين” قدراته العسكرية وتضخُّم قوّته.
توظيف نتنياهو مشروع وقف النّار
في هذه الأثناء، ينتظر أن يشهد الإقليم الكثير من المناورات الشبيهة بما حصل في غزة. وبصرف النظر عمّا يدور حول مسعى البيان المشترك الأميركي الدولي والعربي لوقف النار 21 يوماً للتفاوض، يقرّ كثر من المتضامنين مع الحزب ومناصريه وبيئته، بعد تعرّضها للكوارث، بأنّ الثغرة في موقف لبنان هي ربط الأمين العام للحزب وقف النار في الجنوب بوقف الحرب في غزة. ويجري تصنيف كلمة نتنياهو أمس في الجمعية العامة للأمم المتحدة على أنّها إحدى مناوراته للحصول على شرعية سياسية لمواصلته الحرب على لبنان وغزّة والضفّة.
وليد شقير- اساس