ثقافة الشحنات المتفجّرة: ماتوا قبل سقوط الصاروخ فوق رؤوسهم… ممنوعين من الاعتراض!

ماتوا… ممنوعين من الاعتراض

 

مئات من الذين قُتِلوا بالأمس، أو دُمّرت بيوتهم في الأشهر الماضية، ليسوا منتسبين إلى الحزب. بل ويعترضون على سياساته. تلك التي انتهت إلى تدمير بيوتهم وقتلهم. كثيرون منهم أعرفهم شخصيّاً، أو بالاسم، أو من آرائهم على مواقع التواصل. فهل كانوا “عملاء” لإسرائيل حين ناقشوا الحزب ومنطِقَهُ؟ حين اعترضوا عليه؟ حين حاولوا أن يقولوا كلمة أخيرة قبل سقوط الصاروخ فوق رؤوسهم؟ حين حاولوا أن يتدخّلوا ليعدّلوا في قرار قتلهم وتدمير بيوتهم؟ هل كانوا “صهاينة الداخل” حين حاولوا أن يتسلّلوا إلى النقاش السياسي، من باب “حقّ تقرير المصير”؟

في كتابه “دولة المصارف.. تاريخ لبنان الماليّ”، يكتب هشام صفي الدين جملة عبقريّة في المقدّمة: “الضرر المادّي أصدقُ إنباءً من الإقناع الفكري”. يقولها إذ يشرح كيف أنّ الناس لم تصدّق من حذّروها من الانهيار المالي والمصرفي… إلى أن وقعت الواقعة. وبات الجميع مقتنعين بما كان قليلون قليلون يحذّرونهم منه. فيما كان “وجدان” الجماعة اللبنانية ينبذ هؤلاء ويعتبرهم “حاقدين” أو “جهلة”.

يصحّ إسقاط التشبيه نفسه على الدمار الذي حلّ بلبنان في الأسبوع الأخير. قبله، قليلٌ قليلٌ من الكُتّاب والناشطين السياسيين كانوا يحذّرون. كانوا يرفعون الصوت، اعتراضاً على سوقنا بالقوّة إلى سيناريو غزّة، إلى مسلخ بشريّ في لبنان. وقال، بعضنا بعصبية، وبعضنا بهدوء، بعضنا بغضب، وبعضنا بحرص، بعضنا بحقدٍ، وبعضنا بصدق، إنّ بنيامين نتنياهو يريد هذه الحرب، وإنّه يجب علينا منعه من الوصول إليها. إنّ لبنان ضعيف، مفلس، أطبّاؤه هاجروا منه بسبب الانهيار المالي، وأشقّاؤه هجروه بسبب انحيازه لإيران. إنّ لبنان متروكٌ ووحيد، لكن لم يستمع لنا أحد.

وكما في ملفّ المال الذي “ضرب” اللبنانيين كلّهم، من أثريائهم إلى أفقر فقرائهم، كذلك في ملفّ السلاح والمقاومة. فإنّ “وجدان” الجماعة كان يعتبر كلّ مُعترضٍ على “المسير” نحو مجازر أيلول 2024، إمّا “جاهلاً” أو “حاقداً”.

إيران تفاوض.. فوق جراحنا

هل يمكن تجاهل سلوك إيران في يوم 23 أيلول؟ يوم سقوط نحو 2,500 لبناني بين قتيلٍ وجريح؟

وزير خارجية إيران عباس عراقجي بدأ نهاره بدعوة أميركا إلى التفاوض حول الملفّ النووي، كأنّه يقول لها: “أعطِنا ما نريد… وخُذي ما تريده إسرائيل في لبنان”.

بل وذهب أبعد بأن كشف “مخطّطاً” إسرائيلياً “يسعى إلى إقحام إيران في دائرة الحرب”. برافو فعلاً. كشف المخطّط وأحبطه من نيويورك. ودعا “الشيطان الأكبر” إلى التفاوض. في حين تدكّ صواريخ هذا الشيطان بيوت اللبنانيين. هؤلاء اللبنانيون أنفسهم، الذين اعترضوا على دخول “حرب الإسناد”. من أدخلهم الحرب ينأى بنفسه عنها، ويفاوض “العدوّ”، فيما هم يموتون تحت نيران حلفاء هذا الذي يدعوه وزير خارجية إيران إلى “التفاوض”.

قبلها بأسبوع قال الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان إنّ “إيران وأميركا أخوة”: “نحن أخوة للأميركيين.. ولسنا معادين لأميركا وليس لدينا (معها) أيّ مشكلة”. هم أخوة إذاً. لكن لماذا علينا أن نقاتل نحن وحدنا؟

بادية فحص تواجه “صاحب الطّيّارة”

من يطرح هذه الأسئلة يكون “مُتصهيناً”. بل ومن يطرح أسئلة أقلّ من هذه بكثير، يُرمى عليه “الحُرم”.

بادية فحص، ابنة العلّامة الراحل السيّد هاني فحص، كتبت على فيسبوك قبل يومين: “من ينتصر في الحرب هو صاحب الطائرة، وليس صاحب الزمان. الدعاء لا يُشفي جريحاً بل الدواء يشفيه. يكفي تخريفاً. أهلكتمونا”.

كتبت هذا بعد موجة أخبار عن ظهور السيّدة الزهراء على مُصابين بـ”مجزرة البيجر” وشفائهم. وبالطبع الأخبار نقلت أنّ السيّدة الزهراء اختارت مُصابين دون غيرهم، لأسباب لا أحد يعرفها غير مروّج هذه الأخبار.

وانهالت الهجمات على بادية فحص.

لم تكتب بادية ما يختلف عليه رجال الدين والمرجعيات الشيعية. عُدنا إلى بعضهم، فكانت الإجابة أنّ “المعجزات ليست من الدين في شيء”. وأضاف أحد الشيوخ غير المعارضين للحزب، ومن داخل بيئته: “يُسمح للعامّة بتداول هذه الأخبار. لكنّ النخبة الدينية والسياسية والعسكرية تعرف أنّها غير صحيحة لأنّ الخاصّة يجب أن تأخذ بالأسباب والنتائج وبالاعتماد على العقل للانتصار”.

لم تكتب بادية ما يختلف عليه شيوخ الشيعة المناصرون للحزب. لكنّ المطلوب خنق أيّ صوت للعقل. يجب تقديس الجهل العامّ. بل وتعميم الجهل المقدّس. لم يشكر أحدٌ الأطبّاء، بالمئات، الذين داووا الجرحى. لا مكان لشكر العقل، والعلم. كلّ مناسبة هي فرصة لتخدير العامّة.

ماذا يجري لدى العدوّ؟

وفيما نحن نقدّس الأوهام ونُسكِتُ أصواتَ العقل، ونمنع المعترضين من المشاركة في صناعة مصيرهم، نجد أنّ في إسرائيل نقاشاً حيوياً يوميّاً: تغيير وزراء، خروج تكتّلات نيابية من حكومة الحرب ودخول آخرين، تظاهرات في الشوارع تشتم رئيس الحكومة، معلن الحروب، على الرغم من “انتصاراته” العسكرية في أكثر من جبهة.

هنا ممنوع حتّى طرح سؤال. علينا أن نموت ونخسر أراضينا وبيوتنا وأقرباءنا وحياتنا، ونحن مغمضو العيون كالخراف التي تُساق إلى مصيرها راضيةً مرضية. أيّ اختلاف ولو بسيطاً يقابلونه بحملات تخوين وتكفير وتهديد.

من يراقب جيوش “البيئة” وناشطيها على مواقع التواصل فسيجد أنّهم لا يحرّضون ضدّ إسرائيل، بل ضدّ اللبنانيين المعارضين للحرب والحزب.

كلّ رافض للمجزرة هو عميل وخائن ومتواطىء. ثمّة من يتحكّم بمفاصل هذه البيئة. خبرته المنطقية، وعلومه الدينية، ومعارفه الاجتماعية لا تزيد عن خبرات الذين استوردوا المتفجّرات من الموساد ودفعوا له ثمنها.

تعميم ثقافة التخوين ومنع النقاشات يشبه تعميم الـPagers. هذه ثقافة شحنات متفجّرة. ونتيحة تعميم ثقافة التكفير وادّعاء أبناء الحزب أنّهم يملكون الحقيقة المطلقة بدأت تتجلّى أمام عيوننا.

آخر التجليات طعن الشاب باسم خانجي في بيروت على يد شاب شيعي راح يقول له: “لتتعلّم تحكي على الشيعة والحزب”.

هو العقل نفسه الذي يدّعي أنّه يحمي لبنان. يفخّخ مناصريه بتقديس القرارات الحزبية. ألن ينفجروا بأخوتهم والخائفين على البيئة والطائفة والوطن؟

وختاماً: هل يكون “الضرر المادّي أصدقُ إنباءً من الإقناع الفكري”، كما قال صفي الدين في كتابه.

محمد بركات- اساس

مقالات ذات صلة