“إما الموت وإما انقاذ بلدي”: بشير حاور السوري من الندّ إلى الندّ… فاغتاله!
تكثر التأويلات والالتباسات حول علاقة الرئيس بشير الجميّل بالسوريين، صحيح أنه كان على عداء معهم، إلا أنه لم يوصد الأبواب حيال إمكان التفاهم معهم حتى في ذروة المواجهات بين المسيحيين ونظام الأسد.
شخصية بشير لم تكن ملوّنة، بل لا يملك سوى وجه واحد، فهو صاحب الموقف الواضح الرافض لكل الاحتلالات الأجنبية، ولا يهمّه سوى مصلحة لبنان، لذلك تمّ اغتياله في 14 أيلول 1982 بعدما فاز في الانتخابات الرئاسية وجمع حوله كل اللبنانيين.
بعيداً عن كلام “الكليشيهات”، وبمناسبة الذكرى الـ42 لاستشهاد بشير، لا بد من كشف حقيقة علاقته بالسوريين حتى لا يستمر البعض في ضخ الاتهامات الخبيثة بحق هذا الرجل المميّز الذي ترك بصمة كبيرة في تاريخ لبنان الحديث، لذلك نضع بعض المقتطفات من محاضر حصلنا عليها للقاء بشير بالمسؤولين السوريين، على الرغم من أن رغبتنا كانت بنشرها كاملة لولا ضيق المساحة.
اعتبر بشير أن لبنان معلّق على “صليب” سوريا واسرائيل، وحاول قدر المستطاع تحريره من هذا الصليب، لكن خلال الحروب والمواجهات، كانت تحصل مفاوضات واجتماعات بين بشير ومسؤوليين سوريين، لتقريب وجهات النظر عبر وسطاء محليين واقليميين ودوليين، الا أنها باءت بالفشل لأنه كان يشعر دائماً برغبة سورية في ضمّ لبنان أو جعله يدور في فلكها اذا تعذّر عليها ضمّه. وقد أوضح مراراً أن الكتب المدرسيّة في سوريا تتعمّد الاشارة إلى أن لبنان جزء من سوريا الكبرى.
أما أهم اللقاءات العلنية والمباشرة بين بشير والسوريين، فتمثلت في لقاء رئيس جهاز مخابرات سلاح الجوّ السوري اللواء محمد الخولي ثلاث مرات خلال حرب زحلة في نيسان وأيار 1981.
كانت حرب زحلة على أشدّها، والمقاومة الداخلية في المدينة تثبت جدواها. والعالم يتحرك لمصلحته بعد اتصالات أجرتها “القوات اللبنانية” عبر مكاتبها في الخارج، وخصوصاً في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا.
شعر السوريون بضرورة اجراء اتصال مباشر ببشير، وقد شجعهم الرئيس الياس سركيس على هذه الخطوة، اذ قال لعبد الحليم خدام: “كل ما تفعلونه يبقى بلا طعمه اذا لم تجتمعوا مع الزلمي” (أي بشير).
وبالفعل عقد الاجتماع الأول بينه وبين محمد الخولي في القصر الجمهوري في بعبدا الاثنين 27 نيسان 1981، ودام ثلاثة أرباع الساعة. وكان الخولي ينوي طرح مشروع استسلام على سركيس من 16 نقطة، والأخير تسلّح ببشير ليرفضه.
في هذا اللقاء، أيقن اللواء الخولي أن بشير مصمّم على الذهاب بالمقاومة إلى أقصى الحدود وشعر بعنفوانه في أجلى مظاهره. قال للخولي: “نحن شعب لا يشدنا أحد من مناخيرنا، أنا جايي من وراء المتراس. واني على استعداد لتطبيق مبدأ: عليّ وعلى أعدائي يا ربّ. وأتعامل معك من الند للند”. سأله الخولي: “ماذا أكتب؟”. أجابه: “أمني وحريتي”. وأضاف: “لا أطلب وقف اطلاق نار، ولا طحيناً، ولا… ولا… هذا لا يهمنا. هناك خلاف بيننا وبينكم أريد أن أنهيه”. وعند انتهاء الاجتماع قال الخولي:”اجتماعات الغد للصورة والتلفزيون. وخطاب الأسد موجّه اليك”.
إن عبارتي بشير: “أمني وحريتي” و”هناك خلاف بيننا وبينكم أريد أن انهيه”، تشكلان خلاصة موقف المسيحيين سواء من حيث الهدف المطلق الذين ينشدونه أو حيال نوعية العلاقة التي يرغبون فيها مع سوريا (وسائر الدول العربية).
الاجتماع الثاني بينهما عقد الخميس 30 نيسان 1981. بدأ اللقاء ودياً. قال الخولي: “الرئيس حافظ الأسد موافق تماماً على الطرح. فما هو عرضكم العملي؟”. أجاب بشير: “ليس لديّ عرض عملي بعد. يجب أن نعرف أولاً هل أنتم موافقون على المبدأ”.
وفي خلال الحوار، طلب بشير، كمرحلة أولى، أن ينسحب السوريون من المنطقة الممتدة من زغرتا والزاوية إلى جزين مروراً بزحلة والقرى المسيحية في البقاع. وقال انه يريد نظاماً جديداً في لبنان لا يكون فيه “فيتو” على أحد ولا يكون الجيش اللبناني فيه مشلولاً على النحو الذي هو عليه.
سأله الخولي: “كيف تتصوّر التنفيذ والنظام الجديد؟ المهم ألاّ تكون الدولة برأسين. المسيحي القوي هو الضمان في الحكم”. وأضاف: “نحنا ما لازم نخلق دولة مسيحيّة”. أجاب بشير: “وأنا كمان. أريد دولة لكل لبنان. ولكن لا أريد أن أدفع الثمن في كل مرة يتصارع فيها ماركوس مع مسلمي الفيليبين مثلاً”.
قال الخولي: “بالنسبة إلى النظام السياسي، نحن مستعدون للبحث. ولكننا نريد أن تكون سوريا دولة صديقة”. وأضاف: “اذا أعطيناكم يللي بدكم ياه، شو بيكفل انو يوماً ما تنقلبوا علينا؟”. وهنا عرض بشير على الخولي ضمانة روسية- أميركية. فردّ: “عندما تكون هناك ثقة لا حاجة إلى الضمانات”. وسأل بشير: “هل يمانع الرئيس حافظ الأسد في الضمانات؟”. أجاب: “لا اعتقد”.
وفي نهاية الاجتماع، وبعدما اتفق على الالتقاء مرة جديدة في القصر الجمهوري في بعبدا السابعة مساء الأحد 3 أيار 1981، السابعة مساء، قال الخولي لبشير: “قلت للرئيس الأسد انت شاب آدمي. ويمكن أن نحط إيدينا بايديكم. وأنتم ما لجأتم إلى اسرائيل الّا لأنكم محشورون”.
الاجتماع الثالث عقد في منزل العقيد جوني عبده الاثنين 4 أيار 1981، ودام ثلاثة أرباع الساعة. بعدما شرح بشير وجهة نظره بالنسبة إلى وجود الشرعية في الجبل، قال الخولي: “هل تعتقد أن الفريق الآخر له ثقة بالجيش؟”. أجاب بشير: “إذا عندك معلومات مظبوطة وبتعرف شو في بالغربية، بتعرف انو المسلم والدرزي مشمئزين منك وبيرفضوك متل المسيحي، وهنّي مهيأين لقبول الجيش حتى يخلصو من الوضع اللي هنّي فيه”.
عرض بشير ورقته وشرحها للخولي. وكان هذا الأخير يستوضح بعض النقاط ويدوّنها أمامه.
أكد بداية أهمية الثقة المتبادلة والنابعة من الاطمئنان الداخلي، على اعتبار أن لا النص المكتوب ولا أيّ أمر آخر يحلّ محله. وتحتاج هذه الثقة، كي تتحقق، إلى اجراءات عملية محددة، منها الفوري ومنها ما ينفذ تدريجاً. وهذه الاجراءات على نوعين: أولاً أمنية وتتضمن: الانسحاب السوري من المناطق المسيحية، اعادة الهدوء إلى خط التماس في بيروت والضاحية، تأمين طريق المطار، تكليف “القوات اللبنانية” مهمات أمنية في مناطقها، منع أي وجود فلسطيني مسلح في العاصمة وضواحيها وفي سائر المدن والأماكن السكنية، الحؤول دون جعل الأراضي اللبنانية مصدر خطر من أي نوع كان ضد سوريا. ثانياً الاجراءات السياسية وتتضمن: الاعتراف بـ”الجبهة اللبنانية” وبـ”القوات اللبنانية” وبما تمثلانه على كل الصعد، مساعدة سوريا الدولة اللبنانية على بسط شرعيتها على أراضيها كلها، مساعدة سوريا اللبنانيين على الاتفاق في ما بينهم، اقامة تمثيل ديبلوماسي بين لبنان وسوريا.
عندما انتهى بشير من كلامه، قال الخولي: “هل تعلم كم قتيل سيقع بعد تحقيق هذه الورقة؟”. أجاب: “ولكن هل تعلم كم قتيل سيقع إذا كنت ستدخل جونيه وبكفيا؟”. قال الخولي: “صحيح، هذا مشروع كبير وضخم”. وأضاف: “وما هو ثمن ما تعرضه عليّ؟”. أجاب بشير: “لا أفكر عني وعنك، أنت قل ماذا تريد. أرض؟ اتفاق؟ تمثال؟ قللي بدك تركّبني على ضهرك من هون للشام بركّبك. تقول: نريد لبنان حراً سيداً مستقلاً. انه حر وسيد ومستقل. تفضل واخرج من لبنان. قل ماذا تريد؟ أعطني هذا كله وموضوع اسرائيل يصبح ثانوياً”. قال الخولي: “أنا عائد إلى الشام لأتشاور مع سيادة الفريق. هذه أمور خطيرة جداً”. أجاب بشير: “أنا لا اتفاوض معك من أجل الطحين أو التلال (تلال زحلة) أو وقف اطلاق النار. أطرح قضيتي في العمق. إذا أردت أن تبحث معنا في وقف اطلاق نار وطحين، أنا أنسحب من المفاوضات. الكتائب سترسل اليك من يتفق معك على هذه الأمور. فإما الموت وإما انقاذ بلدي”. قال الخولي: “أخذنا قراراً بالتحادث معك وسأعود إلى قيادتي”.
ودّع الرجلان بعضهما من دون أن يحددا موعد اللقاء الجديد. وفي الواقع، توقف الحوار عند هذا الحد. وأبلغ بشير أنطوان نجم فيما بعد أن الخولي قدم تقريراً إلى الرئيس الأسد وسرّب نسخة منه إلى ياسر عرفات يقول فيه ان بشير الجميل عرض عليه التقسيم.
بشير لم يخف يوماً من الاتصال بأي كان، صديقاً أم عدواً. لم يكن عنده أي مركّب نقص من هذا القبيل خدمة للقضية، واتصالاته بالسوريين كانت من ضمن هذا الاهتمام. والمسيحيون كانوا دائماً على اقتناع تام بأن المصلحة المشتركة تقضي على نحو قاطع بضرورة اقامة علاقات طبيعية مع سوريا. لكن مساعيه قوبلت كلّها، حتى تاريخه، بنيّات سورية غير صافية حيال لبنان ووجوده المستقل.
والمفارقة أن محضر اجتماعه بالاسرائيليين في نهاريا بعد انتخابه رئيساً، لم تكن أجواؤه أفضل، بل ان المسؤولين الاسرائيليين حاولوا فرض اتفاقية سلام على بشير، رفضها قبل الوقوف عند رأي المسلمين شركائه في الوطن.
كان بشير مقتنعاً بأن لبنان معلّق على صليب سوريا واسرائيل، فحاول إنزاله عن الصليب تارة ديبلوماسياً وطوراً عسكرياً، إلا أن بشير في النهاية ارتفع بنفسه على صليب الاستشهاد في ذاك اليوم المشؤوم من تاريخ لبنان الذي بقي معلّقاً على الصليب حتى اليوم!
جورج حايك- لبنان الكبير