موسم المهرجانات الصّيفيّة في تونس: تناقض بين الأذواق النخبوية وطلبات الجمهور الواسع

بدأ الجدل في تونس بشأن المهرجانات الثقافية مبكراً هذا العام.

بدأ هذه المرة على إثر حفل أقامه المطرب راغب علامة بسبب مراقصته بعض المعجبات من على ركح مسرح قرطاج. وتوسعت ردود الفعل نتيجة انتشار مشاهد فيديو للحفل على المنصات الإلكترونية. البعض رأى في رقص المعجبات إسفافاً وانحداراً بمستوى المهرجان، والبعض الآخر – وإن كان أقل عدداً – رأى في رقص المتفرجات ظاهرة عادية لم تغب أبداً عن مسرح قرطاج.

ردود الفعل المتناقضة عكست تناقضات المجتمع التونسي واختلاف الأذواق فيه، كما عكست رغبة بعضهم في فرض تصورهم لما يجب أن تكون عليه أجواء المهرجانات.

منذ عقود كان هناك من يرى في المهرجانات التي ارتبطت اجتماعياً بفصل الصيف والإجازات الموسمية، حلبة رقص ومناسبة للتنفيس عن ضغوط نفسية متراكمة.

وليس غريباً أن يكون هذا الدافع حاضراً في الظرف الحالي بالذات، إذ تحدو الكثير من التونسيين الحاجة إلى الفرح في ظل انشغالهم بأوضاعهم المعيشية الصعبة وبالأزمات التي تواجهها بلادهم.

لكن الرغبة في الفرح قد تبدو هذه الأيام نشازاً بالنسبة إلى الكثير من التونسيين المهمومين بالحرب في غزة وآثارها على الشعب الفلسطيني. منهم من يعترض على أي احتفاليات تنظم في الظروف الحالية، ومنهم من يشعر بالذنب إذا ما حضر حفلاً موسيقياً يؤثثه الرقص والطرب.

لكن التناقض الرئيسي يبقى بين محاولة المهرجانات في تونس (وهي تعد بالمئات) التوفيق بين الأذواق النخبوية وطلبات الجمهور الواسع.

جزء من هذا التناقض له جذوره التاريخية. فقد كانت ميول السلطات الثقافية عند بعثها المهرجانات الصيفية في أوائل ستينات القرن الماضي نخبوية إلى حد كبير، إذ كانت تشعر بأن لديها “مهمة تنويرية” لا بد من أن تؤديها تجاه شعب انعتق حديثاً من نير الاستعمار. فبعثت المهرجانات في المدن والأرياف، وإن بقي اهتمامها وتمويلها موجهين أساساً نحو مهرجاني قرطاج والحمامات الدوليين.

كانت إحدى ركائز التوجه الرسمي منذ البداية الانفتاح على الثقافات الأخرى. وأحسن مثال على ذلك كان تخصيص إحدى أولى سهرات افتتاح مهرجان قرطاج سنة 1964 لمسرحية تونسية مقتبسة من “مدرسة النساء” للكاتب الفرنسي موليير.

كانت السلطات تسعى لرسم صورة لبلاد منفتحة ثقافياً ولجعل المهرجانات عاملاً مشجعاً على السياحة، وذلك بالحرص على تنظيم الكثير منها في المواقع الأثرية للبلاد من قرطاج إلى دقة والجم وغيرها.

تخصصت بعض المهرجانات بتنظيم العروض النخبوية، ومن بينها مهرجان الموسيقى السمفونية في الجم أو مهرجان الموسيقى الأندلسية في تستور أو مهرجان الجاز في طبرقة.

واكبت المهرجانات في وظيفتها نمط حياة الطبقة الوسطى التي توسعت خلال ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته. وأصبحت المهرجانات أداة لتلبية الاحتياجات الترفيهية لهذه الطبقة.

تطورت برامج المهرجانات نتيجة لتطور المجتمع التونسي، وبخاصة بتأثير الفضائيات والإنترنت ونتيجة رغبة السلطة الحاكمة آنذاك في مسايرة الذوق العام.

انفتح مهرجانا قرطاج والحمامات على الموسيقى الشعبية والصوفية وموسيقى الراب، واستمرا في دعوة نجوم الموسيقى العرب والأجانب لإرضاء الجماهير العريضة. والمفارقة أن قائمة العروض القادرة على جذب الجماهير العريضة امتدت لتشمل رموزاً للفن الملتزم مثل مارسيل خليفة وجيل جيلالة.

استفاد المهرجانان من ميل الطبقات الوسطى إلى التوجه نحو الضواحي الشمالية للعاصمة والمنتجعات السياحية في منطقة نابل والحمامات خلال فصل الصيف.

تطورت كذلك أنماط السلوك في المجتمع. وامتد ذلك إلى مختلف الفضاءات العامة، ومن بينها مدارج المهرجانات ومسارحها، بعدما كانت محصورة في الفضاءات الخاصة.

أصبح حضور المرأة كثيفاً، وذلك منذ ثمانينات القرن الماضي. وساعد دعم الدولة لامتلاك السيارات الخاصة الجمهور النسائي على التنقل ليلاً لحضور سهرات المهرجانات.

تنوعت الأذواق، لكن التيار المحافظ لم يفقد تأثيره في المجتمع. بعضه يرفض سلوكيات للمرأة يراها “متحررة أكثر من اللزوم”، بخاصة بعدما أضحت وسائل التواصل الاجتماعي توسع رقعة متابعي المهرجانات وتسلط الضوء على تصرفات الفنانين والجمهور على حد سواء. ولكن تذمرات الشرائح المحافظة لا تبدو قادرة على إثناء الكثيرات عن التصرف بلا قيود.

والسؤال المطروح اليوم: هل بإمكان الدولة أن تواصل السعي لتحقيق الأهداف نفسها التي كانت تنشدها بعد الاستقلال من حيث “النهوض” بذوق التونسيين على وجه الخصوص وبسلوكهم عموماً؟

يعسر ذلك، إذ تعددت اليوم العوامل التي تؤثر في تشكيل الذوق والحس الفنيين. وأضحت الدولة لا تسيطر إلا على القليل من هذه العوامل، بالإضافة إلى غياب الإجماع حول المعايير التي تميّز بين الأذواق “الراقية” وتلك الموصوفة بـ”المتدنية”.

تخلت الدولة تدريجياً عن محاولات “تهذيب” الذوق العام.

خلال العقود الأولى بعد الاستقلال كانت موسيقى الفن الشعبي التي تعتمد آلة “المزود” (آلة نفخ تستعمل جلد الماعز) ممنوعة من البث في الإذاعة. لم تعد الدولة تطمح للعب مثل هذا الدور وإن كانت لمسؤوليها مواقفهم من برامج المهرجانات التي ترعاها السلطة.

تخلت الدولة أيضاً منذ عقود عن الحملات التي كانت تحث على النظافة وتحسين الهندام وتنظيم الأسرة وغيرها.

ولكن لسائل أن يسأل إن كانت حاجة التونسي لحملات (من الدولة أو المجتمع المدني) تحثه على التزام السلوك المتمدن قد انتفت تماماً.

من الصعب أن تقتنع بأن لا حاجة لذلك اليوم عندما تشاهد عدم احترام بعض التونسيين للطوابير وللأماكن المخصصة للتدخين ولقوانين الطرق ولسلامة الملك العام.

لكن الأذواق وسلوكيات الجمهور في المهرجانات أمر آخر. تلك ستبقى بكل تأكيد مثاراً للجدل في ظل مجتمع متحرك.

اسامة رمضاني- النهار العربي

مقالات ذات صلة