احتمالان ضئيلان يستعدّ لهما الحزب | توسيع الحرب ومغامرة رئاسية فرنسية – سعودية
تعتمد آلة القتل الإسرائيلية أشكالاً أخرى غير الطائرات والدبابات والقذائف، سواء أمنية أو غذائية أو غيرها. وهو ما يريح بعض من يعتقدون أن وقف العمليات العسكرية في غزة يمكن أن يعيد الاستقرار إلى الحدود اللبنانية الجنوبية، لكنه يقلق آخرين ممن يأخذون في حساباتهم تلك الواحد في المئة المتمثلة باحتمال توسيع الكيان الإسرائيلي للحرب خارج المساحة الجغرافية والعسكرية التي حدّدها الحزب. وهو ما يفسر – جزئياً – بعض ما شهده نهاية الأسبوع الماضي الذي استهلّ بإعلان الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أن الحرب الحاصلة «معركة وجود ومصير»، في تطور كبير في التوصيف، تبعه هجوم نوعي لحزب الله منعت الرقابة الإسرائيلية نشر أي خبر حوله بعد كلام الصحافة الإسرائيلية المقتضب عن استهداف مصنع للأسلحة، فيما تحدّث نشطاء إسرائيليون على مواقع التواصل عن استهداف الحزب في العمق الفلسطيني لرادار The EL/M-2080 Green Pine الأميركي الصنع الذي تبلغ كلفة «الحبة الواحدة» منه 83 مليون دولار، ويُستخدم لاكتشاف الصواريخ الباليستية واعتراضها.
ومع تجنّب الحزب إصدار أي بيان حول هذه العملية كما يفعل بعد غالبية العمليات النوعية منذ السابع من أكتوبر، فإن استهداف هذا الرادار (الذي لم يؤكده) بعد الاستهداف الممنهج للقبة الحديدية وتدمير المنشأة العسكرية التي انطلق منها منطاد “تل شمايم” الذي يفترض أن يحذّر من التهديدات، يعني أن صواريخ الحزب الباليستية لن تجد ما يردعها، وهنا كانت الرسالة مزدوجة (في حال صحّ ما يتداوله الإسرائيليون عن تدمير هذا الرادار): إصابة الهدف البعيد بدقة فائقة أسوة بما يحصل منذ السابع من أكتوبر، وإعلام المعنيين في إسرائيل بأن ما من قبب ستحميهم. وفي ظل حديث «يديعوت أحرونوت» أمس عن عدم استخدام الحزب أكثر من خمسة في المئة فقط من ترسانته طوال هذه الأشهر، فإن الحزب شغّل يومي الجمعة والسبت الماضيين:
• خمسة بالمئة من قدرات الدفاع الجوي لإسقاط أحدث مُسيّرة في الجيش الإسرائيلي تسوّق لها مصانع الأسلحة الإسرائيلية بوصفها عصية على الإسقاط، بحكم تحليقها على ارتفاع 30 ألف قدم بسرعة 220 كلم في الساعة لمدة 36 ساعة متواصلة. مع التأكيد أن «هرمز 900» تبدو في الجو كالفأر مقارنة بفيل الـF16، مع ما يعنيه ذلك من قدرة على إسقاط المقاتلات الحربية الإسرائيلية وطي صفحة التفوّق الإسرائيلي الجوي. مع العلم أن الصحافة الإسرائيلية غالباً ما تؤكد أن صواريخ الحزب الدقيقة بوسعها استهداف أي غرفة في أي منشأة في تل أبيب، فكيف الحال إذاً مع طائرة فوق السماء اللبنانية.
• خمسة بالمئة من قدرات قواته الجوية الهجومية، حيث هاجم سرب من المُسيّرات اللبنانية مواقع إسرائيلية في الجولان، وقالت الصحافة الإسرائيلية إن آخر مرة اشتعل فيها الجولان بهذا الشكل كانت في حرب أكتوبر 1973، فيما نفّذت ثلاث مُسيّرات أخرى عمليات نوعية في مناطق حدودية أخرى كما تضاعفت حركة المُسيّرات البحرية وفق الصحافة الإسرائيلية التي انتقدت بشدة أمس عدم استعداد الجيش الإسرائيلي جيداً لهذا التهديد رغم الدروس التي كان يفترض أن يتعلمها على هذا الصعيد من الحرب الأوكرانية – الروسية، مشيرة إلى كشف الحزب عن مُسيّرات تحمل متفجرات تنفجر في الهدف ومُسيّرات أخرى تحمل صواريخ يمكن إطلاقها نحو الهدف.
• خمسة بالمئة من قدرات ترسانته الصاروخية لإصابة الهدف العميق غير المعلن، والهدف القريب المتمثل بثكنة برانيت مع تصويرها تصاب وتحترق، وقاعدة كريات شمونة التي أظهرتها الفيديوات الإسرائيلية مدمّرة بالكامل وأكثر من 47 هدفاً إضافياً خلال 48 ساعة فقط.
المهم هنا ليس قيام حزب الله بهذه العمليات كلها التي تلحق خسائر بشرية ومادية هائلة بالإسرائيليين (الذين لا يعلنون عن عدد القتلى والمصابين) من ضمن المساحة الجغرافية الضيقة التي تواصل إسرائيل قصفها دون هوادة منذ السابع من أكتوبر، كما ترصدها الاستخبارات الإسرائيلية والأميركية بكل الوسائل التكنولوجية المتاحة لها، في ظل انتشار اليونيفل والجيش اللبناني فيها أيضاً، إنما الأهم هو عدم سقوط عدد كبير من الشهداء نتيجة التغيير الجذري للحزب في وسائل عمله وإيجاده الحلول لكل ما طوّرته إسرائيل والولايات المتحدة من وسائل رصد واستهداف. ومن راقب ردة الفعل الإسرائيلية على استهداف العمق الإسرائيلي وإحراق الثكنات وإسقاط المُسيّرة لاحظ أن الإسرائيلي متوتر جداً ومنفعل، لكنه يقصف ما سبق له قصفه عشرات المرات ولا يملك بديلاً عن الأهداف البشرية. وعليه فإن توصيف السيد لما يحصل بأنه «معركة وجود ومصير»، وإيصال «الرسالة الباليستية»، وعمل سلاح الدفاع الجوي وسلاح الهجوم الجوي والهجوم البحري وتكثيف الضربات الصاروخية دفعة واحدة، كل ذلك لا يهدف بموازاة إسناد غزة إلا إلى إيصال رسائل تحذير ردعية دقيقة للمعنيين في إسرائيل والولايات المتحدة بأن تفكير الإسرائيلي في توسيع الحرب مع لبنان في ظل المتغيرات – المحتمل – حدوثها في غزة ستكون له تداعيات كارثية كبيرة على إسرائيل.
وبوضوح غير مسبوق على هذا الصعيد قال السيّد نصرالله لأول مرة إن «معركة الوجود والمصير» هذه تعني فلسطين وتعني أيضاً لبنان وثرواته وسيادته.
وإذا كان الحديث أعلاه عن مسارين عسكري وسياسي في فلسطين، فإن ثمة مسارين عسكرياً وسياسياً في لبنان أيضاً. وكما حرّك خطاب بايدن المياه الراكدة في المسار السياسي في فلسطين، فإن زيارة مستشار الرئيس الفرنسي جان إيف لودريان حرّكت المياه الراكدة في المسار السياسي في لبنان. فقد قال لودريان إنهم يرفضون وصول رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ويرفضون الحوار برئاسة الرئيس نبيه بري، ويتمسكون بتطبيق القرار 1701، وانتقل الفرنسيون بالتنسيق مع السعودية من معادلة «رئيس لكم ورئيس لنا» إلى معادلة الرئيسين المقبولين من جميع الأفرقاء بما يتناغم أيضاً مع المسعى القطري. لكن هذا كله لن يكون له أي معنى ما لم ينتزع الرئيس الفرنسي موافقة الرئيس الأميركي في قمتهما المقبلة في ذكرى إنزال النورماندي على استعادة الفرنسيين لدورهم في لبنان. ففي ظل الاعتراف الأميركي بالدور الإيراني الكبير في المنطقة ووجوب التنسيق مع طهران لخفض التصعيد، وفي ظل الدخول الأميركي على الحل السياسي في غزة من البوابة القطرية، يقول الفرنسيون اليوم إنهم لا يريدون شيئاً من الشرق الأوسط غير لبنان. وإذا كانت الأمثال «تُضرب ولا تقاس»، فإن أحد المطّلعين يقول إن أميركا وفرنسا اختلفتا على العراق عام 2003 قبل أن تتفقا على لبنان بعد بضعة أشهر فقط تحت مظلة القرار 1559 الذي طالب بإخراج سوريا من لبنان كما تريد فرنسا، وتغيير الواقع الأمني كما تريد أميركا. وعليه، قدّم الفرنسيون ورقة خاصة بالترتيبات الأمنية المستقبلية وهم يأملون أن تُعدل ورقة هوكشتين لتصبح ورقة فرنسية – أميركية مشتركة. لكن الأهم بالنسبة إليهم هو الترتيبات السياسية. فهم يخشون أن تنتهي الحرب في الجنوب اللبناني بترتيبات أمنية فقط، ويعتبرون أن الوقت ضاغط جداً ويريدون حلاً سياسياً شاملاً أسوة بخطاب بايدن الأخير بشأن الورقة الإسرائيلية.
وما قاله لودريان في لقاءاته اللبنانية يؤكد في هذا السياق السعي الفرنسي لإقناع الأميركيين بخوض معركة سياسية سريعة معهم والسعوديين لإلزام رئيس المجلس بالدعوة إلى جلسة لانتخاب الرئيس، وتعديل التوازنات النيابية، وإجراء الاتصالات الأميركية والسعودية اللازمة بعدد من النواب (خصوصاً من الطائفة السنية) لإيصال رسالة واضحة للرئيس بري والحزب بأن تطيير نصاب الجلسة بعد الدورة الانتخابية الأولى سيكون صعباً جداً. وعندها، وفق الافتراض الفرنسيّ دائماً، سيجد الحزب نفسه مخيّراً بين جلسة غير مضمونة النتائج أو البحث الهادئ في خيار رئاسي ثان غير فرنجية.
ويقول الفرنسيون في هذا السياق إن موقف الأميركيين ومن خلفهم الإسرائيليون ضعيف جداً في ما يخص الترتيبات الأمنية مع لبنان لأن موقف السلطات الرسمية اللبنانية الدستورية المتمثلة بالرئاستين الثانية والثالثة يتناغم بالكامل مع موقف الحزب، فيما كبّل قائد الجيش نفسه بطموحاته الرئاسية التي تلزمه بمحاولة كسب ودّ الحزب. ولا بد بالتالي من انتخاب رئيس للجمهورية يتبنى الموقف الدولي بإنهاء الحرب ويكون شريكاً في إدارة المفاوضات لتطبيق القرار 1701.
فرنسا التي توحي بين وقت وآخر بأنها أكثر واقعية من الأميركيين في تعاملها مع لبنان، تلتزم كما أوحت مقاربات لودريان بخارطة طريق سعودية لا تتمتع بأي هامش للحركة الدبلوماسية فيها. وفي ظل «خطاب بايدن» الذي يحاول أن يؤمّن للكيان الإسرائيلي عبر الحل السياسي ما عجز عن أخذه في العسكر والأمن والتجويع، ترى فرنسا والسعودية من خلفها أن هذا ممكن في لبنان أيضاً، متجاهلتين بالكامل، وبعكس الأميركيين، أن التوازنات مختلفة تماماً، ولا يمكن التعامل بجدية في نظر الأميركيين مع أي تفكير سواء كان فرنسياً أو سعودياً بإيصال رئيس للجمهورية ضد إرادة حزب الله أو من دون تنسيق معه ليعمل مع الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية ضد الحزب. وما على السفارة الفرنسية في لبنان في هذا السياق سوى ترجمة المقال الأخير لرئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، في مجلة «فورين أفيرز» الذي أكّد فيه أن مفتاح أمن إسرائيل والمنطقة هو «التعامل مع إيران»، حيث يبدو واضحاً من مجمل الحركة الأميركية أنها تلتزم بكل ما ورد فيه بحذافيره. ومع ذلك فإن الحزب الذي يتعامل بجدية مع الاحتمال الضئيل لتوسيع الإسرائيليين للحرب في هذه اللحظات السياسية الإقليمية الدقيقة، ويراكم الرسائل الردعية، لا بد أن يتعامل بالجدية نفسها مع الاحتمال الضئيل لنجاح الفرنسيين والسعوديين بتوسيع الحرب السياسية ضد الحزب سواء لإيصال رئيس أو لتحسين شروط التفاوض السياسي.
غسان سعود- الاخبار