لودريان الخائب… خسرنا المسيحيين ولم نربح المسلمين: الأخطاء لا يمكن محوه بسهولة!

ماذا تفعل فرنسا في لبنان أو ماذا بقي لها في كيان لم يعد لها ولداً مدللاً ولم تعد له أماً حنوناً؟

انه السؤال الذي يسبق دائماً وصول موفدها جان لوي لودريان الى بيروت موعوداً بشيء ما ويعقب رحيله محروماً من كل شيء.

المسيحيون لا يثقون ببلاده بعد الحرب التي خاضوها وحيدين ضد الفلسطينيين أولاً والسوريين ثانياً، والمسلمون لا يراهنون عليها وهم العارفون أن الحل والربط في واشنطن وليس في باريس، واللبنانيون جميعاً يجمعون على أن زمن شارل ديغول في اللعبة الاقليمية والدولية قد انتهى عندما انتهى آخر الرجال الفرنسيين الكبار مع رحيل خليفته جورج بومبيدو.

ايمانويل ماكرون يعرف ذلك وكذلك لودريان وسفراء فرنسا المتعاقبون منذ ربط الرئيس فرنسوا ميتران شرف بلاده بشرف الجنرال ميشال عون اللاجئ في السفارة الفرنسية بعد هزيمة “الثالث عشر من تشرين”، لكن شيئاً ما يعيد باريس الى هذا البلد كلما طرأ أمر ما أو كلما تراءت فرصة سانحة.

والسؤال ما هو هذا الشيء الذي يوضّب حقائبها ويرسلها الى بيروت وهي العارفة أن لبنان الذي كبّرته في العام ١٩٢٠ وغادرته في العام ١٩٤٥ لم يعد لا فرنسي الهوى ولا غربي المزاج، بل تحول الى خليط من انتماءات متناحرة يطغى عليها الطابع العربي في مكان والاسلامي في آخر ويقل فيه الطابع المسيحي المنهك والمحبط من فرط ما تلقاه من الأقربين والأبعدين؟

الجواب يكمن في تفسير واحد وهو أن فرنسا ترفض الاقرار بأنها خسرت الكثير من لبنان، وبأن من تبنى ثقافتها ولغتها طويلاً بات يفضل اليوم الانطلاق من الملعب الأميركي كلما أراد أن يتواصل مع العالم سلباً أو ايجاباً.

ويقول مصدر ديبلوماسي فرنسي في هذا المجال: “ان قصر الاليزيه الذي أهمل المسيحيين في لبنان بعد عهد ديغول لم يربح المسلمين في المقابل، فوجد نفسه أمام طائفة خائبة وطائفة منغلقة على الغرب ومنفتحة على الشرق بحكم الدين من جهة، وبحكم موازين القوى في العالم من جهة أخرى، وهي موازين لم تكن فيها فرنسا أكثر من رافد في القوة الأطلسية- الأميركية”.

ويضيف: “ان فرنسا التي نعرفها تاريخياً لم تعد تلجأ الى الحروب بعد هزيمتها في فيتنام في خمسينيات القرن الماضي، ولم تعد تجيد رسم الخرائط بعد سايكس- بيكو، ولا وضع التسويات بعدما تولتها الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الباردة وتحديداً في اطار عمليات السلام في الشرق الأوسط، ولم تعد تصنع التحالفات الموثوقة بعدما سقطت أمام الزحف الروسي والصيني في القارة الافريقية، وتراجعت أمام الزحف الايراني في مستعمرتيها السابقتين أي لبنان وسوريا الى الحد الذي بات الباب المؤدي الى بيروت يفتح من الضاحية الجنوبية، والمؤدي الى دمشق من الجمهورية الاسلامية”.

ونعود الى السؤال الأول، ماذا تفعل فرنسا في لبنان، أو بالأحرى ماذا يمكن أن تفعل فيه أو له في ظرف اقليمي متفجر تداخلت فيها الجيوش في شكل لم تشهده المنطقة من قبل؟

الواقع أن من يقود باريس هذه الأيام انما يحاولون عبثاً التقاط أي شيء خارجي سواء في لبنان أو سواه وذلك من باب “نحن هنا”، بعدما توالت انسحاباتها من مناطق نفوذها في العالم على مستوى الحضور واللغة والانتشار، مراهنين على فئتين في لبنان، فئة مسيحية لا يزال بعضها يحن الى باريس وفئة اسلامية وتحديداً شيعية تجد فيها ما لا تجده في واشنطن، وتأخذ منها ما لا تستطيع أخذه من الأميركيين مباشرة.

والواقع أيضاً، وفق تسريبات من صانعي القرار الفرنسيين، أن باريس ارتكبت من الأخطاء في لبنان ما لا يمكن محوه بسهولة أو تعويضه بسرعة، مشيرة الى أن الرؤساء الفرنسيين حاولوا في الكثير من المرات استغلال العداوات الأميركية وبينها العداوة مع ايران للتسلل الى الاقتصاد الممانع قبل أن يدركوا أن ما يملكونه لم يكن ما تحتاجه طهران، وأن ما تملكه ايران لم يكن في مقدور الأئمة أن يعطوه.

ولعل ما لا تملكه فرنسا هو القدرة على فك حصار ايران، وما لا تقدر ايران على اعطائه هو دور يتجاوز دور أميركا، ما يعني عملياً أن ماكرون لن يتمكن من اعطاء “حزب الله” الرئيس الذي يريده، وأن ايران ليست في وارد اعطائه ما تفضل أخذه من الأميركيين، أي وقف اطلاق نار في غزة ودور مؤثر في أي تسوية قد تعقب اليوم التالي للحرب، ورئيس في لبنان لا يكون من أعدائها إن لم يكن من حلفائها.

انطلاقاً من هذا المشهد ليس صحيحاً أن الخيار السياسي في لبنان قد سقط حسب توصيف الفرنسيين، بل الصحيح أن الدور الدولي الفرنسي هو الذي سقط عندما ظن الفرنسيون أن التاريخ يمكن أن يعيد نفسه بكبسة زر، وعندما تأخروا في الاقرار بأن الذين يديرون البلاد هذه الأيام هم من الطينة التي تردد في بيروت ما تسمعه من دمشق مرة ومن طهران في كل المرات، وأن الذين لا يديرونها تحولوا الى كتلة يتيمة لا حول لها ولا قوة.

انطوني جعجع- لبنان الكبير

مقالات ذات صلة