إسرائيل تدفع بقوة براً وجواً في «الوقت المستقطع»…واللبنانيون في النفق بانتظار الضوء

في المعلومات أنَّ المبعوث الأمريكي أموس هوكشتاين أبلغ المفاوضين اللبنانيين، في مسعاه الأخير مبدئياً للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و»حزب الله» أن الورقة الأمريكية هي كل لا يَتجزَّأ، وليست قابلة للتعديل. وعلى لبنان «التعامل معها على قاعدة: خُذها أو اُتْـرُكْها». المقبول أمريكياً هو تدوير زوايا المطالب أو الشروط في البنود الـ13 بلغة تعبيرية يمكن من خلالها تخفيف وطأة الشروط على «حزب الله» الذي يُفاوض باسمه رئيس البرلمان نبيه بري، لا بصفته الدستورية بل بوصفه الشريك السياسي في «الثنائية الشيعية» المهيمنة على البلد. ما هو غير مقبول التلاعب لغوياً بماهية البنود أو بمضمونها الذي يتناول التنفيذ الحرفي للقرارات الدولية، ولبند لجنة المراقبة التي ستكون برئاسة أمريكية وبمنزلة وصاية عسكرية وأمنية دولية.

يذهب بعض المراقبين إلى اعتبار أن الحزم الأمريكي في تنفيذ القرار 1701 وما يتضمنه من قرارات من 1559 و1860 واتفاق «الطائف» واتفاق «الهدنة» ينبع من غياب الثقة بقدرة السلطات اللبنانية المتعاقبة على التنفيذ الدقيق، ولا تكتفي إسرائيل بلجنة المراقبة، بل تريد حق التدخل إذا رأت أن هناك خللاً ما يشوب التنفيذ. ولكن في واقع الحال، تأتي الشروط الأمريكية – الإسرائيلية بفعل تحوُّل استراتيجي دولي كبير يقضي بالقضاء على أذرع إيران العسكرية في المنطقة، وفي مقدمها «حزب الله» في لبنان – درَّة التاج – بما يؤدي إلى إضعاف الأوراق التي في يد إيران قبل الذهاب إلى طاولة التفاوض لبحث الملفات الأساسية: من النووي الإيراني، مرورًا بالصواريخ الباليستية، وصولاً إلى تمدُّد النفوذ، في خضم المخاض الحالي لترتيب المنطقة لعقود مقبلة.

في اليوم الستين للحرب الإسرائيلية الثالثة على لبنان، التي أنهت عملياً «حرب الإسناد» لغزة، والتي بدأها «حزب الله» في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023 وبينما كان هوكشتاين يُنهي جولتيه على بيروت وتل أبيب، شهد جنوب لبنان تسريعاً في المرحلة الثانية من العملية العسكرية، إذ سجل الجيش الإسرائيلي تقدماً كبيراً في القطاع الشرقي، حيث سيطر على بلدة الخيام وتقدَّم إلى مثلث الخيام – إبل السقي – مرجعيون وبات على مشارف الليطاني، كما نجح في القطاع الغربي بمحاصرة منطقة الناقورة والسيطرة على بلدة شمع الاستراتيجية والتقدُّم إلى البياضة، بما يجعل الطريق الساحلي لمدينة صور تحت النيران الإسرائيلية فتصبح المدينة ومحيطها معزولَين. يُقطِّع الإسرائيلي أوصال القرى والمناطق والأقضية الجنوبية المتصلة بعضها ببعض.

الوضع الميداني سيّئ جداً. وكلمة الميدان لا تلعب لمصلحة «الحزب» ولا لمصلحة لبنان. بيانات «المقاومة الإسلامية في لبنان» في غالبيتها، تتحدث عن إطلاق مسيَّرات وقصف بالصواريخ لتجمعات الجيش الإسرائيلي داخل البلدات الجنوبية، فيما تتراجع البيانات عن ذكر الاشتباكات المباشرة. إسرائيل تُنفِّذ استراتيجية مختلفة تماماً عن استراتيجية حرب تموز 2006 لم تعتمد الدخول البري الكلاسيكي، بل على حرب العصابات. تتقدَّم فتُمشِّط وتشتبك مع مقاتلي «الحزب» الذين تحوَّلوا إلى استشهاديين، ثم تُفجِّر الأنفاق، وتُؤمِّن المنطقة وتنسحب تحسباً للوقوع في كمائن أعدَّتها «فرقة الرضوان» في «حزب الله» التي ارتكزت بشكل كبير على تكرار الجيش الإسرائيلي لـ»سيناريو حرب 2006».

المعلومات القادمة من الميدان شحيحة، نظراً إلى نزوح سكان تلك المناطق، وامتناع «حزب الله» عن الإعلان عن شهدائه بشكل يومي، كما كان يفعل في «حرب الإسناد». عناصر «الحزب» يتركون ساحات المعركة وينسحبون إلى مناطق آمنة. وفي شهادات لأبناء بلدات وصلها مقاتلو «الحزب» فُرادى، فقد كانوا منقطعين عما يدور في لبنان منذ شهرين، ولا يعلمون أنَّ القادة الكبار السياسيين والميدانيين والعسكريين تمَّ استهدافهم واستشهدوا. وثمة روايات تَقشعِرُّ لها الأبدان عن وضع هؤلاء الشبان الأحياء، والشهداء في أرض المعركة.

اقتحام قرى

يستعيد متابعون للوضع الميداني، المناورات التي كان يُنفذها الجيش الإسرائيلي منذ سنوات، معلناً أنها تُحاكي اقتحام قرى بنفس طبيعة القرى اللبنانية بجغرافيتها المعقدة التي تتواجد فيها عناصر «حزب الله» ومنصَّات إطلاق الصواريخ. في إحدى المناورات التي تعود إلى العام 2019 قالت «القناة 12» الإسرائيلية إن العملية العسكرية المركزية التي جرى التدرُّب عليها هي إغلاق دائرة الاشتباك بين القوات الجوية والبرية منذ رصد الهدف وحتى استهدافه. وأضافت أنَّ الجيش الإسرائيلي الذي كان يتوقع تواجد «حزب الله» في الأنفاق، تدرَّب على القتال في باطن الأرض، في أنفاق وتحصينات، والقضاء عليها بواسطة قوات هندسية. ونقلت القناة عن قائد كتيبة إسرائيلي قوله إن الجيش الإسرائيلي لن يدخل إلى كل قرية في لبنان، بل سيختار الأهداف التي سيضطر إلى احتلالها ويستهدف الأماكن التي نعرف أنها ستساعده في هزيمة العدو، والأماكن التي تُشكِّل مركز ثقله.

هذه تفاصيل مناورات تعود إلى خمس سنوات مضت تشي، بشكل كبير، بأن القيادة العسكرية الإسرائيلية غيَّرت استراتيجيتها القتالية في جنوب لبنان، مستفيدة من الدروس والعِبَر المستقاة من إخفاقات حرب 2006 حيث مُنيت، حينها، بخسارة فادحة في ما عُرف بـ«مجزرة الدبابات» في وادي الحجير. اليوم يتم عملياً تنفيذ تلك المناورات على أرض الواقع، معزَّزة بما يملكه الجيش الإسرائيلي من تقنيات تكنولوجية عالية ومعلومات استخباراتية يستخدمها في المعركة.

ليل الجمعة – السبت، بثّت أوساط الرئيس بري أجواء إيجابية عن زيارة هوكشتاين إلى إسرائيل، حسب ما أبلغه المبعوث الأمريكي للجانب اللبناني بعد وصوله إلى واشنطن عائداً من تل أبيب، وهو ما فهمه الجانب اللبناني أن الإعلان الرسمي سيأخذ بعضاً من الوقت يتراوح من أيام معدودة إلى أسبوع وربما أسبوعين، بدا أنها فترة سماح جديدة أُعطيت من قبل الأمريكيين للإسرائيليين لإنجاز بعضٍ من الأهداف في الوقت المستقطع. ولكن لم يمضِ الفجر حتى نفَّذت إسرائيل غارة في قلب بيروت، وتحديداً في منطقة البسطة الفوقا، بصواريخ خارقة للتحصينات بلغ عددها خمسة، تشبه من حيث قوتها عمليات الاستهداف الكبرى. فعدا عن الرعب الذي شعر به سكان العاصمة، وعدد الضحايا الذين سقط المبنى على رؤوسهم، فإن طبيعة الغارة تشي بأنها عملية اغتيال كبرى، إما لقيادي سياسي أو لعسكري بارز، لم يُعلن «حزب الله» هويته أو مصيره.

تكشَّف بعد اغتيال الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله أنه كان قد وافق على إطلاق النار بين «الحزب» وإسرائيل وفصل مسار لبنان عن مسار غزة. جاء الاغتيال وما سبقه وتلاه من اغتيالات للصفوف الأولى والثانية والثالثة الميدانية والعسكرية ورأس الهرم السياسي وخليفته المحتمل ليخلق وقائع جديدة لم تكن في الحسبان، على أقله بالنسبة إلى «الحزب» و»محور إيران»، الذي تلقّى ضربة جديدة في لبنان بعد غزة، فيما تُشير المعلومات إلى أن أي تسوية مستقبلية لا يمكن إلا أن تشمل كل أذرع إيران، ما يضيف عليها الأذرع في سوريا والعراق واليمن.

الإسرائيليون يعتبرون أنهم يحققون النصر على «حزب الله»، ولسان حال اللبنانيين – سواء أكانوا سياسيين أم مواطنين – هو عمّا إذا كانت هذه الحرب هي الأخيرة في «بلاد الأرز»، بحيث يتم إقفال جبهة الجنوب وسحب لبنان من أن يكون ساحة تقاتل ورسائل إقليمية ودولية وما فوق لبنانية لتبدأ مسيرة بناء الدولة والمؤسسات، والعودة إلى الدستور و»اتفاق الطائف» حيث كان لافتاً إشارة الشيخ نعيم قاسم إليهما في آخر إطلالة له، وإعلانهما «خارطة طريق» للعمل تحت سقفهما لدى انتهاء العدوان. لا يزال من الصعب إيجاد أجوبة أكيدة وشافية، لأن لبنان واللبنانيين لا يزالون في النفق بانتظار الضوء.

رلى موفق- القدس العربي

مقالات ذات صلة