“السيّد” حدد وجهته للمرحلة المقبلة… ولبنان معلّق بجبهات “الحزب” لما بعد غزّة!
ليست مصادفة أن يلتقي الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله بوفد قيادي من حماس برئاسة خليل الحية لتنسيق جبهات المساندة في حرب غزة. فاللقاء جاء بعد كلام مرتفع السقف لنصر الله في خطابه الأخير أكد فيه الترابط بين لبنان وغزة واستمرار العمليات العسكرية من جبهة الجنوب وعدم وقفها إلا بانتهاء الحرب على القطاع.
اللقاء مع قيادة حماس ليس الأول منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، لكنه يحمل أبعاداً تؤشر إلى الانتقال نحو مرحلة جديدة من التنسيق، من ضمن غرفة موحدة للجبهات يقودها “حزب الله” من خارج الأراضي الفلسطينية، حيث كان لافتاً أخيراً توسيع حجم المشاركة الفلسطينية من حماس والجهاد الإسلامي في إطلاق الصواريخ من جنوب لبنان.
وبينما تستمر الحرب الإسرائيلية على غزة مع بدء العمليات في رفح، وفيما لا تزال جبهة الجنوب مشتعلة، مع تهديدات من حكومة بنيامين نتنياهو بتوسيع الحرب على لبنان، رفع نصر الله من سقف شروطه لوقف العمليات، مخاطباً المستوطنين في شمال إسرائيل بأنهم لن يستطيعوا العودة إلى منازلهم إذا استمر الهجوم الإسرائيلي على غزة، وطالبهم بالضغط على حكومتهم لوقف الحرب.
في التصورات يبدو أن نصر الله يراهن على تغييرات في المرحلة المقبلة يعتبرها تصب في مصلحة محور المقاومة، لذا استعجل في إعلان الانتصار، من دون تقدير لما يمكن أن تكون عليه الحال إذا اشتعلت الحرب من دون حسابات وسقوف. وفي تقدير الموقف الذي يستند إليه أن “طوفان الأقصى” فتح معركة يجب ألا تنتهي من دون تحقيق إنجاز في غزة ولبنان، مستبقاً كل النتائج التي أحدثتها الحرب من دمار وخسائر هائلة.
بات نصر الله اليوم مختلفاً عن الأمس، فبإعلانه الانتصار يكون قد حدد وجهته للمرحلة المقبلة، فهو كان قد أعلن أن جبهة الجنوب هي لمساندة غزة، ثم اعتبرها لحماية لبنان، ومع التطورات التي حدثت في الداخل الإسرائيلي من خلافات وانقسامات، بنى على ذلك رهانات بأن محوره بات قريباً من هزيمة إسرائيل، وهو ما تفرزه برأيه المعركة على جبهة الجنوب وما ستفرزه لاحقاً وما سيليها، ومرتكزاً في تصوره انطلاقاً من العلاقة بحماس أنها لا تزال صامدة في غزة، لا بل إنها أعادت تنظيم قواها وتستمر بتنفيذ العمليات وتوقع خسائر كبيرة بقوات الاحتلال، وترفض استبعادها من قطاع غزة، وأن وقف الحرب يكون بتسوية سياسية معها وحدها.
لكن بين إعلان النصر والوقائع في الميدان مسافة شاسعة، خصوصاً إذا انزلقت الأوضاع إلى حرب شاملة، لا يستطيع لبنان تحمل نتائجها، ما دام الاتفاق على وقف إطلاق النار والدخول في تسوية لا يزالان بعيدين، إن كان في غزة أو في لبنان لجهة التفاوض على تطبيق القرار 1701 وترسيم الحدود.
بعد نحو 220 يوماً على عملية “طوفان الأقصى”، وبعد فتح “حزب الله” معركة إسناد غزة، باتت ساحة الجنوب جبهة أكثر من مساندة. فرغم بدء العملية العسكرية في رفح، استمر التصعيد الناري على جبهة جنوب لبنان، وهو ما يؤكد أن المخطط الإسرائيلي يسعى لإبقاء منطقة الحدود ملتهبة لمنع العودة إلى ما قبل 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، في انتظار ما ستؤول إليه الأمور على جبهة غزة. وهذا يعني أن كلاً من إسرائيل و”حزب الله” ينتظران غزة، فيما هدف حكومة الاحتلال تحقيق شيء ملموس بإطالة أمد الحرب يعزز شروطها في السيطرة على القطاع.
هذا الواقع يُعزز المخاوف من نقل حرب رفح إلى جنوب لبنان. فالعمليات والمواجهات بين إسرائيل و”حزب الله” متواصلة، فيما الوساطات الدولية، لا سيما الأميركية، توقفت في ظل الشروط والانسداد، إضافة إلى ترنح الورقة الفرنسية لتثبيت التهدئة وإطلاق التفاوض لتنفيذ القرار 1701. وإذا كانت إسرائيل تهدد بشن الحرب على لبنان، وهدفها تغيير المعادلات، فإن “حزب الله” مستمر في عملياته، ويرفض أي بحث في التهدئة ولن يطرح رؤيته السياسية للجنوب اللبناني قبل وقف إطلاق النار في غزة، وهو ما يؤشر إلى استمرار معركته التي أعلنها نصر الله من دون الأخذ بالاعتبار الوضع اللبناني العام والانقسامات السياسية وتعليق كل الاستحقاقات على جبهته.
بيد أن موقف “حزب الله”، وتحديداً ذهاب نصر الله إلى إعلان النصر، يكشف في وجهه الآخر مأزقه الداخلي مع استمرار الحرب والاستنزاف الذي يعانيه، خصوصاً مع خسائره البشرية والمادية وما تتعرض له القرى الحدودية من تدمير، والأخطر عدم إعلان رؤيته للمرحلة المقبلة، إما بعدم القدرة على أخذ المصلحة اللبنانية بالاعتبار في المواجهة، وإما برهنها لحسابات إقليمية. وفي الحالتين لا يمكن لطرف تحت عنوان المقاومة ضد الاحتلال أن يقفل البحث والنقاش في قدرة البلاد على تحمل الاستنزاف الطويل الأمد، أو رفض التفاوض وربطه بوقف النار في غزة.
النقطة الأساسية في إعلان نصر الله متعلقة بالرهانات التي يعقدها “حزب الله” على ما تحقق في غزة وما اعتبره إنجازاً في جبهة الجنوب، فإعلان الحزب أنه يقترب من تحقيق أهدافه في معركة إسناد حماس، وأن الأمور ستعود إلى ما كانت عليه قبل 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 من قواعد اشتباك، وإسقاطه كل محاولات إنشاء منطقة عازلة في الجنوب ومنع إسرائيل من غزو لبنان بفعل توازن الردع الذي حققه، فإنه يبني موقفه مستنداً إلى دعم إقليمي لتحقيق مكاسب داخلية وخارجية. وهو بهذا الموقف لا يكترث للخسائر وللتدمير الذي حل بالقرى الحدودية، ولا بكلفة إعادة الإعمار، في الوقت الذي بات المجتمع الدولي، خصوصاً الدول التي تشارك في قوات اليونيفيل وتلك التي تدعمها، تصر على تغيير الواقع في المنطقة الحدودية، أي أنها تؤيد تسوية تقوم على تطبيق القرار 1701 مع ترتيبات أمنية تؤدي في نهاية المطاف إلى معادلة جديدة لا تعيد الحدود إلى ما قبل “طوفان الأقصى”.
رهانات نصر الله من المعركة هي في نهاية المطاف لفتح مسار سياسي جديد في المنطقة. وهذا المسار يشمل في شكل رئيسي غزة ولبنان وسوريا. لذا أي تفاوض يفضي إلى اتفاق في ملفات المنطقة سيكون الحزب بدعم إيراني مقرراً فيه، إن كان في ملف اللاجئين حين دعا نصر الله لفتح البحر أمامهم كرسالة تصعيد للأوروبيين، علماً أن “حزب الله” قادر بعلاقته مع النظام السوري أن يعيد اللاجئين إلى مناطقهم أو أقله فتح مسار عودتهم، فيما يرفض التفاوض حول تطبيق القرار 1701 إلا بوقف النار في غزة.
المؤكد أن “حزب الله” يعزز تحالفه مع حماس في المواجهة مع إسرائيل استعداداً للمرحلة المقبلة. ويبدو أن تكثيف العمليات واستخدام تقنيات جديدة عبر الطائرات المسيرة التي يستخدمها الحزب، مرتبط بالرهانات على إحداث تغيير في سياق المواجهة، وصولاً إلى فتح نافذة للتفاوض في المنطقة، خصوصاً بين إيران وأميركا. ويبدو أن طهران منذ الهجمات المتبادلة بينها وبين إسرائيل تعتبر أن ما تحقق على جبهات المساندة يصب في مصلحتها، وبالتالي ستفرض على الأميركيين فتح مسار التفاوض معها وإن بشكل غير مباشر للتوصل إلى التهدئة والمفاوضات.
لكن تقديرات “حزب الله” وحماس أيضاً قد تحمل نتائج عكسية، في ظل المأزق الإسرائيلي الداخلي. إذ إن إسرائيل لا تزال تطلق التهديدات بشن الحرب على لبنان، وهي اليوم أمام توسيع العمليات من قبل “حزب الله” وعدم القدرة على إعادة السكان إلى المستوطنات الشمالية في وضع حرج، وقد يؤدي ذلك وسط الانسداد القائم وتراجع الوساطات والمبادرات إلى اندلاع الحرب أو توسيع العمليات أو حتى مواجهة شاملة أو دخول المنطقة في فوضى عارمة قد تمتد إلى أشهر مقبلة.
في كلام نصر الله الأخير محاولات ضغط على الأوروبيين والمجتمع الدولي في كل الملفات، فيما بات واضحاً أن إسرائيل، رغم مأزقها، تسير بخيار الحرب. والمخاطر باتت مفتوحة على الجنوب الذي تحول إلى خط قتال بجبهة قائمة ومرتبطة بوحدة الساحات، وهو مؤشر إلى عودته لما قبل عام 1978 وتفلت الحدود مع مشاركة فلسطينية من حماس والجهاد الإسلامي في العمليات العسكرية، ما يؤدي إلى استنزاف للبنان وحرب متفلتة في غزة قد تمتد إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ابراهيم حيدر- النهار العربي